هذا المقال مخصص للبحث عن تفسير لموقف إدارة بايدن من الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة. وبالتحديد، يحاول المقال الإجابة على السؤال: هل موقف هذه الإدارة نابعٌ فقط من الانحياز الأميركي التقليدي لحليفتها العضوية؛ إسرائيل، أم أن لها هدف أميركي خاص تسعى لتحقيقه من هذه الحرب؟
منذ السابع من أكتوبر، اليوم الذي شنّت فيه حركة حماس هجومها على إسرائيل، والإدارة الأميركية تمنح تل أبيب دعماً كاملاً وشاملاً على مختلف الصعد، غير مسبوقٍ في درجة تماهيه مع الموقف الإسرائيلي، التي وصلت حدّ الانصهار التام. ومع أن الولايات المتحدة هي الراعي المؤتمن، والحليف الأوثق، الداعم لإسرائيل منذ قيامها، إلا أن الدعم الحالي الذي تحظى به إسرائيل من إدارة بايدن يفوق في حجمه ومداه ما حظيت به إسرائيل من دعم أميركي في حروبها السابقة. المختلف هذه المرّة، هو أن هذا الدعم الأميركي المستمر بقوة متناهية حتى الآن، يأتي دون أية مساءلة ذات جدوى لما تقوم به إسرائيل على أرض المعركة، وخصوصاً ما يتعلق باستهدافها الممنهج والمكثف للمدنيين الفلسطينيين. بل على العكس، تتمتع إسرائيل بتغطية وافية ومكتملة الأركان من واشنطن لكل ما تقوم به من انتهاكات صارخة للقوانين الدولية والأعراف الإنسانية، ما منحها حتى الآن رخصةً ووقايةً للإمعان في تدمير الحياة في القطاع، وللدرجة التي تم بموجبها التساهل مع دعوة وزير إسرائيلي بضرب غزة بقنبلة نووية!
منذ وقعت أحداث السابع من أكتوبر، سارعت واشنطن بتبني السردية الإسرائيلية، التي اجتزأت الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي ليبدأ فقط منذ هذا التاريخ، ماحيةً كل ما سبق من دواعٍ وأسبابٍ وحيثيات وأحداث، وقافزة عن مأساة الشعب الفلسطيني الذي فقد وطنه، ويعيش جزء منه تحت غلال احتلالٍ كولونيالي إحلالي بشع لما ينوف على النصف قرن، بينما البقية منه تعيش مجزأة في الشتات. كما وأفرجت إدارة بايدن عن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة التي كانت تتحفظ عليها وتتهمها بأنها بحمايتها لما يقوم به المستوطنون في الضفة، وبتقسيمها للمجتمع الإسرائيلي داخلياً، تعرّض مستقبل إسرائيل للخطر. كما وأقرّت الموقف الإسرائيلي بأن الوضع في القطاع يجب أن يتغير بصورة جذرية، ووافقت على إنهاء حكم حماس وتدمير بنيتها العسكرية فيه.
باتخاذ واشنطن، وحليفاتها الغربية، الموقف المبكر أن «لإسرائيل حق، بل وواجب، الدفاع عن نفسها»، أعطيت تل أبيب التغطية الكاملة لشن حربٍ شاملة ومستمرةٍ بلا هوادة على القطاع، دون اعتبارٍ لأية مقيدّات يفرضها اكتظاظه الهائل بالسكان. ليس هذا وحسب، وإنما قامت، إضافة إلى تحشيد دعم حلفائها الغربيين، بإمداد آلة الحرب الإسرائيلية بكل ما تحتاج إليه من عتاد ومعلومات استخباراتية وخبرة ميدانية، وحركت قطعها البحرية وجنودها للمنطقة تحسّباً لإمكانية الحاجة للإسناد. وزيادةً على توفير الدعم المالي لإسرائيل بمليارات الدولارات، لدعم الجيش وتدعيم الاقتصاد، قامت من خلال استخدامها حق النقض في مجلس الأمن بإغلاق أية إمكانية للتوصل إلى وقف إطلاق النار. بل هي ما فتئت تعلن على لسان وزير خارجيتها، بلينكين، الذي أصبح ناطقاً رسمياً باسم إسرائيل، أنها لا توافق على هذا الوقف، بل تدعم التوصل إلى «توقفات» زمنية مختصرة ومحددة لتُستخدم لتوصيل مساعدات إنسانية للمدنيين فقط.
وعدا عن التضامن المعنوي الذي تمثّل بزيارة بايدن شخصياً لتل أبيب، وتأكيده منها على الدعم الكامل والمفتوح لإسرائيل قام بلينكين حتى الآن بزيارتين لعواصم عديدة في المنطقة، طرح فيما طرحه خلالهما التصور وسيناريوهات الترتيبات المختلفة لترتيب وضع القطاع بعد استكمال إسرائيل مهمة إنهاء حكم حماس له. وبالطبع، ومن أجل توفير التبرير التقليدي المستهلَك، أصبح بلينكين يُكثر من تكرار الإشارة إلى ضرورة دفع «حل الدولتين» للأمام بعد تحقيق إسرائيل لمهمتها من الحرب. وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدّل على أن الموقف الأميركي لا يتوقف عند حدّ تقيم الدعم غير المحدود لإسرائيل، بل وصل إلى درجة الانغماس معها في تحقيق الهدف.
السؤال الذي يبرز جرّاء كل هذه المعطيات: لماذا كل هذا الدعم الأميركي الشامل والمتواصل لحرب إسرائيلية غير متناسبة في حدة استهدافاتها، تزهق أرواح آلاف المدنيين، جلّهم من الأطفال، وأدّت إلى نزوح مليون ونصف غزّيٍ، وتدمير سبل الحياة في القطاع؟ أوليس الولايات المتحدة الدولة الأعظم، على الأقل عسكرياً، في العالم، وبمقدورها – كما جرى في حالات سابقة – فرض وقف هذه الحرب على إسرائيل إن هي أرادت، وليس فقط الطلب والتمني عليها بتوسيع مجال إدخال المساعدات الإنسانية التي لا تشمل الوقود اللازم لاستمرار تشغيل المستشفيات؟ ولماذا لا تريد واشنطن الانتقال بموقفها إلى ما هو أبعد مما هو عليه حالياً؟
قد يكون الجواب واضحاً يحمل في ثناياه التفسير التقليدي: إسرائيل هي الحليفة العضوية لأميركا، بمعنى أنها جزء لا يتجزأ من السياسة الداخلية الأميركية، يدعمها وجود أقلية متنفذة، ولوبي قوي، متغلغل، وفعّال، يبني في تأثيره على صانع القرار في واشنطن على الموقف المتجذر في الذهنية والوعي الأميركي، بأن العلاقة مع إسرائيل بنيوية، ومتأصلة في قيم أساسية ومنطلقات عقائدية مشتركة. ولكونها جزء لا يتجزأ في العملية السياسية الداخلية لأميركا، فإن لقضايا إسرائيل تأثيرات مهمة في النظام السياسي الأميركي، وخصوصاً في مجال الانتخابات على مختلف الصعد، المحلية، وفي الولايات، وعلى المستوى الفيدرالي. وبالتالي، لا يمكن القفز عن موضوع العناية بإسرائيل، والالتزام باستمرار دعمها، في كل مستويات ذلك النظام، الذي تبقى فيه حاضرة بشكلٍ دائم ومستدام.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك العلاقة اللصيقة الممتدة لبايدن بإسرائيل، والتزامه الشخصي المنبثق عن إيمان وقناعة ليس فقط بوجودها، وإنما أيضاً بجدوى غايتها والغاية منها، يصبح تفسير ما يقوم به، ويقوم به أركان إدارته المنحازة تلقائياً لإسرائيل، أمراً واضحاً لا يحتاج إلى كثير تفكير. فهو ليس أكثر من تحصيل حاصل؛ فعلُ مبنيٌّ على تراث تراكميةٍ تاريخيةٍ من الالتصاق والدعم المضمون.
لكون ما حصل لإسرائيل في السابع من أكتوبر اعتُبر أمراً جللاً هز أركانها وكينونتها، فقد تحركت الإدارة الأميركية للأسباب المذكورة والاتجاه المبيّن أعلاه. هذا هو التفسير المباشر والواضح للدعم الذي تتلقاه تل أبيب من واشنطن حالياً. ومع أن هذا التفسير صحيح ومقبول من ناحية مبدئية، إلا أنه لا يفسر القوة المفرطة لهذا الدعم، الذي جعل الإدارة الأميركية متماهية إلى حدّ ذوبان موقفها بالكامل مع موقف إسرائيل. كما وأن هذا التفسير التقليدي يجعل من الولايات المتحدة دولة وظيفيةـ تسخّر كامل إمكانياتها للقيام بما يريده الإسرائيليون منها فقط، وكأن ليس لها، كدولة أولاً، وعظمى ثانياً، مصالح خاصة تسعى لتحقيقها.
مع قبول تفسير الارتباط المصلحي والقيمي والعاطفي بين أميركا وإسرائيل كدافع مهم لما تحظى به تل أبيب من دعم أميركي غير محدود، إلا أنني على الاعتقاد بوجود دافع مصلحي أميركي خاص يفسر لنا ليس سبب الدعم المقدم لإسرائيل، والذي هو نمط تقليدي مارسته جميع الإدارات الأميركية السابقة، وإنما تماهي واشنطن مع الهدف الإسرائيلي المعلن لهذه الحرب: القضاء على حكم حماس في القطاع وتدمير بنيتها التحتية. وبقدر ما هو هذا الهدف إسرائيلي، هو أيضاً هدف أميركي، وكلا من الطرفين يسعى لتحقيقه لغاية خاصة به.
نتيجة للتحولات التي بدأ يشهدها النظام الدولي منذ بدايات الألفية الثالثة، والتي بدأ يبرز من خلالها دور الصين كمنافس جدّي لأحادية تفرّد أميركا بالعالم، أخذت واشنطن الأمر على محمل الجدّ، وبدأت تولي أهمية واهتمام بالتحولات الجارية في منطقة الباسيفيك. وقد جرى ترجمة هذا الاهتمام عملياً عندما أعلن أوباما استراتيجية إدارته عام 2012، ومفادها «الاستدارة شرقا» بتحويل تركيز أميركا من منطقة الشرق الأوسط إلى آسيا، وبالتحديد منطقة الباسيفيك. فقد أصبحت أميركا منذئذٍ منهمكة في مسعى احتواء «الصعود الصيني» ودرء مخاطره على مكانتها الدولية، ومصالحها في العالم. ما عناه ذلك حينئذٍ أن واشنطن ستبدأ في تقليص مواردها المخصصة للحفاظ على وجودها المكثف في منطقة الشرق الأوسط، وستقوم بتحويلها لتعزيز تواجدها في منطقة الباسيفك.
هذا التحول الاستراتيجي تطلب من واشنطن العمل على استتباب الأوضاع في المنطقة. من ذلك إنهاء حربيها في العراق وأفغانستان، والسعي لتوسيع حلقة تطبيع وجود إسرائيل في المنطقة، واحتواء إيران، وتعزيز أمن دول الخليج العربية. وبالطبع كان من ضمن ما سعت له الولايات المتحدة لتحقيق استقرار المنطقة بما يسمح لها بتقليص انهماكها بها، النجاح في استمرار إدارتها للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بما يضمن بقاءه ضمن سياقٍ ومحدداتٍ مسيطر عليها، تحقق مصلحة إسرائيل، من جهة، وتبقيه صراعاً خافتاً مستمر على نار هادئة يمكن لإسرائيل والإقليم والعالم أن يحتملها ويتعايش معها، من جهة أخرى.
مع أن إسرائيل بقيت تتفلت على إيران وتؤلب حلفاءها الغربيين من المحاولات الإيرانية لمدّ النفوذ في المنطقة، إلا أن واشنطن، على الأقل خلال فترتي حكم أوباما وبايدن، ارتأت في احتواء إيران، وليس مواجهتها، هدفاً يصب في المصلحة الأميركية، وكبحت جماح إسرائيل العدائية. ليس هذا وحسب، وإنما جرى برعاية أميركية، ولتحقيق استتباب الوضع في المنطقة، تم التوصل إلى «تفاهمات» عجيبة حكمت العلاقة بين إسرائيل وحركة حماس المسيطرة على القطاع، وحليفة إيران المناوئة لإسرائيل، وأميركا، والتحالف الغربي بشكل عام. وكان الأمر يسير لأميركا بسلاسة على جبهة التطبيع العربي مع إسرائيل، إذ حققت اختراقات مهمة على صعيدها، ما جعلها، مثل إسرائيل، تعتقد بإمكانية استمرار إهمال الموضوع الفلسطيني، الذي تنحّى عن قدرته على التأثير وخرج من قائمة الأولويات.
صحيح أن أمور المنطقة بقيت «مقلقزة»، ولكن بدرجة كان يمكن لأميركا السيطرة عليها من خلال وجود مقلص وموارد أقل من السابق. كان ذلك مهماً لها للتركيز على المواجهة المستعرة مع الصين. ولكن ما جرى في السابع من أكتوبر أفسد لها الاستقرار المتوخى، وأعادها للتدخل المباشر والمكثف لإعادة الاستقرار «المقلقز» للمنطقة.
أصبح على سُلّم الأولويات الأميركية، وفي هذا تلاقي مع الأولوية الإسرائيلية، التخلص من حكم حماس في القطاع، لتحييد تأثيراتها «السلبية» على كامل المنطقة. لتحقيق ذلك، وباختلاف عن موقف إسرائيل، وجهت واشنطن، بمختلف الوسائل، رسالة واضحة وقوية لإيران وحزب الله بضرورة النأي بالنفس وعدم التدخل في الحرب، والذي إن حصل ستكون له عواقب وخيمة على الطرفين. وقامت بإطلاق يد إسرائيل لتحقيق هدف التخلص من حكم حماس للقطاع، وذلك لاستعادة الاستقرار وتعزيز أركانه في المستقبل، ما يجعلها تعود إلى سابق العهد بتركيز جلّ جهدها على محاصرة الصين و»احتواء صعودها». هذا هو الهدف الأميركي الكامن وراء موقف واشنطن الشديد الدعم لإسرائيل الآن.
ما يمكن أن يُدخل تغييرات على هذا الموقف الأميركي، هو الرأي العام العالمي الآخذ بالتحول بالاتجاه الفلسطيني، وما يمارسه من ضغط على العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، وذلك جراء ما تلحقه آلة الحرب الإسرائيلية بالمدنيين الفلسطينيين من خسائر فادحة وغير محتملة للضمير الإنساني. هذا ما يمكن أن يفسر السعي الأمريكي لتقليص هذه الخسائر إلى درجة أقل، يمكن للإدارة الأميركية تحمل الدفاع عنها، ولكن ليس بالتدخل الحازم لإنهاء الحرب ووقف إطلاق النار. فالحرب التي لأميركا مصلحة خاصة فيها، لن تنتهي إلا عند تحقيق إسرائيل للهدف الإسرائيلي – الأميركي المشترك منها.