لإسرائيل بقرتان مقدستان لا تتوقف عن حلبهما . الأولى : المحرقة أو الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية ، والأخرى : معاداة السامية . وضاق صدر بعض المفكرين اليهود من طول وكثرة وانتهازية حلب البقرة الأولى . وهاجت إسرائيل وأميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا غضبا من الرئيس عباس بعد علمها باتهامه لليهود في 24 أغسطس / آب الماضي في اجتماع لمجلس ثوري فتح بأنهم السبب في المحرقة التي نكبهم الألمان بها ، ونسب اتهامه إلى مؤرخين أوروبيين بعضهم يهود. ومن الأسئلة المستوجبة هنا : لماذ تأخرت الردود الغاضبة أسبوعين على ما قاله؟!
وهل كان الغاضبون لا يعلمون به مدى الأسبوعين ؟! يستحيل هذا ، والمقدر أن الذي أعلمهم به من الحاضرين في اجتماع المجلس لم يتأخر هذين الأسبوعين . وهنا يمكننا أن نهتدي إلى سبب تأخير الغضب الإسرائيلي والغربي الذي قد يكون تنسيق اتفاقهم على عزل عباس والإتيان بمن اعدوه ممن حوله من القيادات الفتحاوية السياسية أو الأمنية . وهذا الأسلوب يحقق هدفين مزدوجين.
الأول: إنهاء عهد عباس المتعدد المناصب حيث هو رئيس دولة فلسطين، ورئيس السلطة، ورئيس فتح ؛ بعد أن صار في سن السابعة والثمانين العالية التي تعجزه عن أداء مهامه، وفي مقدمتها بالنسبة للغاضبين توفير الأمن للمستوطنين والجنود الإسرائيليين في القدس والضفة، وترتيبا في كل أنحاء إسرائيل. ويأملون في أن يعينوا بعده من هو أصغر سنا، وأقدر على القيام بالمطلوب منه، وربما يتخيلون أن من سيعينونه قد يكون أكثر مقبولية لدى الفلسطينيين من عباس الذي تدنت مقبوليته لديهم إلى درك سفلي صفري. والهدف الثاني المراد تحقيقه من هذا الأسلوب : مغادرة عباس لمناصبه المتعددة بصورة ” مشرفة ” له . يستطيع أن يقول ، في تقديرهم ، إنهم أبعدوه لتحديه لهم ، ومجابهتهم بحقيقتهم المزيفة التي اتخذوها جسرا متينا لاغتصاب وطن الفلسطينيين .
ما ذنبنا نحن الفلسطينيين ؟! أوروبيون قتلوا أوروبيين في نزاعات وحروب من صنعهم . ولو كانت إسرائيل تحديدا مستاءة من عباس ومتخوفة من خطره عليها ما وصل إلى أي من مناصبه الحالية ، ولما سمحت له بدخول الضفة أو غزة ، وهذه حال كل من دخلوهما بعد اتفاق أوسلو . وفي المفاوضات مع منظمة التحرير حول الاتفاق وما تبعه من محادثات واتفاقات فرعية كانت ، إسرائيل ، ترفض مشاركة من لا تريده من منظمة التحرير في تلك المفاوضات والمحادثات والاتفاقات . وكل ما تقدره إسرائيل وتأمله ومعها الغاضبون الآخرون في أميركا وأوروبا لن ينخدع به الشعب الفلسطيني الذي يعلم يقينا أن إسرائيل لا تختار أحدا وتتعاون معه إلا لمنفعتها الخاصة ولمضرته لشعبه .
ما غاية أن يختار عدوك من يلي أمرك ؟! هذا اختيار لخيره ولشرك . واتفاق أوسلو كان كله خيرا لإسرائيل وشرا على الفلسطينيين ، ولولا تضحياتهم في السنوات الثلاثين التي انقضت حتى الآن على توقيعه لكان طريقا مفتوحا إلى نكبة ثانية قاضية . تلك التضحيات العظيمة حررت غزة ، وأفضى زخم تواليها الذي يتعالى الآن إلى حشر إسرائيل في أكثر من زاوية ضيقة امنيا وسياسيا وسوء سمعة في العالم . في استطلاع منذ أيام نشرته صحيفة ” إسرائيل اليوم ” اعترف 56 % من الإسرائيليين بأنهم فقدوا الشعور بالأمن بسبب الهجمات الفلسطينية ويقر أمنيون إسرائيليون كبار أن إسرائيل دولة تمييز عنصري ضد الفلسطينيين ، وليس قليلا أن يقر تامير باردو رئيس الموساد الأسبق بهذا الجرم الفاحش في تصريح لوكالة ” أسوشيتد برس ” الأميركية قبل أيام . وإسرائيل بداهةً أردأ وأبشع من دولة تمييز عنصري . مغتصبة وطن شعب وقاتلة ومشردة له.
وكل نتيجة لها مقدمات توصل إليها . إنك لا تستطيع أن تسلم زمامك لعدوك ، وتنتظر في ذات الوقت أن يقودك إلى ما تحب . سيقودك إلى ما يحب هو ، وما تكره أنت . ومنظمة التحرير الفلسطينية أسلمت قيادها في أوسلو إلى إسرائيل ، فقادتها من خلال السلطة إلى هذه الحال التي تختار فيها من الفلسطينيين من يخدم أمنها ومصيرها المضادين لأمن ومصير الشعب الفلسطيني، ولا قيمة ولا فعالية لما يقوله من تختاره عن معاداته لها ، وعن رفضها للسلام وحل الدولتين الذي بات “وحْل” الدولة الفلسطينية، وتعرف السلطة الفلسطينية هذه الحقيقة مما تفعله إسرائيل في القدس والضفة ، ومما يسمعه مسئولوها من المسئولين الإسرائيليين شفاها ووِجاها . وفي هذا السياق ما كان مفاجئا أن نسمع أن كل ما طلبته السلطة من الرياض شرطا لتطبيعها مع إسرائيل أن توافق هذه على وقف ما تقتطعه من أموال المقاصة ، وأن تخفف من القيود على البناء الفلسطيني في المنطقة ج في الضفة الغربية . طلبان لا صلة لهما بدولة أو سيادة . من يثق في عدل عدوه معه ورحمته له يشبه من يحفظ ماءه في غربال .