هل أخطأت نجلاء منقوش وزيرة الخارجية الليبية تقدير ردود أفعال الليبيين أم أنها ستكون كبش فداء لتهدئة الشارع الليبي الغاضب بعد الاحتجاجات الشعبية الرافضة لمحاولات التطبيع السرية على اثر الكشف عن اللقاء الذي جمعها بوزير الخارجية الإسرائيلي ايلي كوهين في العاصمة الايطالية روما بحضور وزير الخارجية الايطالي عراب اللقاء..؟
الأكيد أنه لا مكان للصدفة في مثل هذه المسائل والأكيد أيضا أن آلة الدعاية الإسرائيلية تمتلك من الدهاء والقدرة على الاستثمار في الأحداث والترويج لنجاحها الديبلوماسي في مواصلة مسار التطبيع العربي وهذه المرة التطبيع المغاربي مع الجانب الليبي بعد المغرب ومن قبل موريتانيا.. الكشف عن اللقاء لم يكن من الجانب الليبي وكما في كل اللقاءات العربية الإسرائيلية السابقة كانت تل أبيب أول من ينشر الصور والأخبار كلما تعلق الأمر بلقاءات مع مسؤولين عرب أو أفارقة، حدث ذلك مع السلطان قابوس قبل وفاته عندما استقبل ناتنياهو وزوجته في مكتبه في مسقط وحدث قبل ذلك مع البرهان في السودان وفي قطر عندما كانت جسر التواصل في المحادثات بين إسرائيل والفلسطينيين أو الإمارات والمغرب ..
خبر لقاء المنقوش وكوهين أعاد الى الأذهان ذاك الفيديو الذي راج على هامش مشاركة نجلاء بودن رئيس الحكومة المقالة خلال مشاركتها في قمة المناخ في شرم الشيخ عندما بدت وكأنها تحادث الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أثناء الصورة العائلية للقمة.. وقد أثارت الصورة ما أثارته من جدل قبل أن يفتر على خلفية أن بودن لم تكن تعرف الشخص ..
أين الوزيرة الليبية؟
حتى هذه المرحلة لا يعرف مصير نجلاء المنقوش التي تضاربت الأنباء بشأن انتقالها بطريقة غير معلومة الى تركيا تجنبا لتداعيات ما حدث بين الأنباء عن إقالتها مؤقتا الى حين التحقيق فيما حدث.. وفي انتظار ما يمكن أن تؤول إليه الصورة في ليبيا التي تغرق في حرب الإخوة الأعداء والمنقسمة بين حكومتين متنافستين يبقى السؤال الأكثر حضورا كان بإمكان وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش أن تكون التقت وزير خارجية إسرائيل بمبادرة شخصية وأنها لم تستحضر تداعيات ذلك على شخصها كامرأة تمارس السياسة في بلد لا تزال المرأة فيه ابعد ما تكون عن سلطة القرار وهل يمكن أن تكون المنقوش أقدمت على هذه الخطوة دون العودة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة الذي يدرك جيدا أن أقصر الطرق للوصول الى السلطة وكسب دعم واشنطن يمر عبر إسرائيل وهل حاول الدبيبة استعمالها لجس النبض في الداخل والخارج قبل الإقدام على أي خطوة قد تكون مدمرة لطموحاته السياسية ؟…
المنطق يفترض وقبل البحث في خفايا لقاءات المنقوش بوزير الخارجية الإسرائيلي أن المسؤولة الليبية ما كان لها أن تتصرف دون ضوء اخضر دون ضمانات من مرؤوسيها فالمشهد الليبي كغيره عموما عندما يتعلق الأمر بالمشهد السياسي في المنطقة لا مجال لأي وزير فيه أو من هو دونه اتخاذ قرار أو حتى الإدلاء بتصريح دون موافقة مسبقة وهذا ليس سرا خفيا على أحد ..
معلوم أن المنقوش وهي أول امرأة ليبية تتولى هذا المنصب منذ تعيينها في حكومة الدبيبة في مارس 2021 وهي امرأة القانون أثارت الجدل في أكثر من مناسبة وأثارت غضب المجلس الرئاسي عندما طالبت بإخراج القوات التركية من بلادها ولاحقا بسبب تصريحاتها تسليم مسؤول ليبي متهم في قضية لوكربي.. ولكن يبدو ان الجدل الذي أثارته هذه المرة يمكن أن يضع نهاية مبكرة لطموحاتها ومسيرتها السياسية.
إسرائيل تصر وتؤكد
ندرك جيدا قدرة وهيمنة الآلة الدعائية الإسرائيلية على الاستثمار في الأحداث والتسويق لنجاحات إسرائيل الديبلوماسية خاصة في مجال مواصلة وتوسيع عملية التطبيع، وقد جاءت مختلف تصريحات المسؤولين الإسرائيليين لتصب في هذا الاتجاه حيث كشفت مصادر إعلامية إسرائيلية استندت الى بيان للخارجية الإسرائيلية الى أن نجلاء المنقوش تحدثت مع نظيرها الإسرائيلي لأكثر من ساعتين في اجتماع استضافته إيطاليا تم الاتفاق عليه مسبقا “على أعلى المستويات” في ليبيا، بل أن الخارجية الإسرائيلية كشفت عن أن اللقاء يهدف الى دراسة إمكانات التعاون وبناء علاقات بين ليبيا وإسرائيل والحفاظ على التراث اليهودي الليبي كخطوة أولى في إقامة علاقات رسمية بين الجانبين على اعتبار أن حجم ليبيا وموقعها الاستراتيجي يمنحان العلاقات معها أهمية عظيمة وإمكانات هائلة لإسرائيل وأن اللقاء شهد أيضا مناقشة العلاقات التاريخية بين البلدين وسبل التعاون والمساعدات الإسرائيلية في القضايا الإنسانية والزراعة وإدارة المياه وغيرها.
وهو ما يتعارض كليا مع الموقف الليبي الذي حاول تخفيف الأمر والتأكيد على أن اللقاء كان عرضيا ودون سابق تنظيم.
الملاحظة الأولى أن إعلان الدبيبة تعليق عمل وزيرته جاء بعد إعلان الوزير الإسرائيلي عن لقائه بنظيرته الليبية وتقديمه تفاصيل اللقاء.. وحتى يبدو الأمر كذلك أعلن الدبية إيقاف الوزيرة عن العمل الى حين كشف ملابسات ما حدث.. الخارجية الليبية تصر من جهتها على أن نجلاء المنقوش رفضت عقد أي لقاءات مع ممثلين لإسرائيل وأن ما حدث في روما هو”لقاء عارض غير رسمي وغير معد مسبقا أثناء لقاء مع وزير الخارجية الإيطالي” أنطونيو تاياني.
والأرجح أن احتجاجات الليبيين أمام مقر وزارة الخارجية الليبية في طرابلس وفي غيرها من المدن الليبية دفعت الى إبعاد المنقوش على الأقل في هذه المرحلة.. المثير أن رد الشارع الليبي الرافض لعملية التطبيع السري هذه جاءت معلنة عن موقف شعبي ليبي لتكذب غياب الرأي العام الليبي وانصرافه عن المشهد السياسي رغم كل مظاهر العزوف التي قد تبدو للعيان ..
المصادر الإسرائيلية لم تتوقف عند حد الكشف عن اللقاء وملابساته بل إنها من كشف أيضا عن “هروب المنقوش على متن طائرة حكومية إلى تركيا بمساعدة جهاز الأمن الداخلي الليبي” وهي مسألة تحتاج للتأكيد أيضا.. فمعلوم أن المنقوش جاءت من بريطانيا وكان يمكنها العودة الى حيث نشأت قبل أن تحل بليبيا لتولي وزارة الخارجية ..
رفعا للإحراجات
الخارجية الليبية وفي محاولة لرفع الإحراجات أكدت في بيان لها أن المنقوش رفضت عقد أي لقاءات مع أي طرف ممثل لإسرائيل ومازالت ثابتة على ذلك الموقف بشكل قاطع. وأفاد البيان أن ما حدث في روما هو«لقاء عارض غير رسمي وغير معد مسبقا، أثناء لقاء مع وزير الخارجية الإيطالي، ولم يتضمن أي مباحثات أو اتفاقات أو مشاورات، بل أكدت فيه الوزيرة ثوابت ليبيا تجاه القضية الفلسطينية بشكل جلي وغير قابل للتأويل واللبس”. كما اتهمت الوزارة الصحافة العبرية باستغلال الحدث ومحاولة إعطائه طابع اللقاء أو المحادثات أو حتى الترتيب أو مجرد التفكير في عقد مثل هذه اللقاءات، وفقاً للبيان. وجددت الوزارة رفضها التام والمطلق للتطبيع مع إسرائيل، وأكدت التزامها الكامل بالثوابت الوطنية تجاه قضايا الأمتين العربية والإسلامية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وشددت على تمسكها بالقدس عاصمة أبدية لفلسطين، معلقة أن هذا “موقف راسخ لا تراجع عنه”. في المقابل دعت هيئة رئاسة مجلس النواب الليبي إلى عقد جلسة طارئة، لمناقشة ما وصفته بالجريمة القانونية والأخلاقية المرتكبة في حق الشعب الليبي وثوابته الوطنية من خلال لقاء المنقوش مع الوزير الإسرائيلي.
موقف الشارع الليبي من التطبيع ليس محل اختبار
لقاء نجلاء المنقوش وكوهين مهما كانت دوافعه وأهدافه ونتائجه كشف حقيقة لدى الشارع الليبي أن التطبيع مرفوض وان دعم الشارع الليبي للقضية الفلسطينية ليس محل اختبار لا سيما من فئة من الشباب الذي لا أول ولا آخر لقضاياه في بلد منكوب بحكامه وسلطاته المتعاقبة..
من الواضح أن دور وزير الخارجية الايطالي أنطونيو تاياني لا يتوقف على استضافة لقاء المنقوش وكوهين وقد كشفت مصادر إسرائيلية أن هناك مساعي مع مجموعة من الدول في الشرق الأوسط، وإفريقيا وآسيا، بهدف توسيع دائرة السلام والتطبيع مع إسرائيل…
ليس سرا أن حلم إسرائيل في مضي قطار التطبيع قدما لفتح العواصم العربية حتى بلوغ السعودية هدف استراتيجي تراهن عليه حكومة ناتنياهو.. فكيف ستتعامل الحكومات العربية مع هذا المسار على خلفية لقاء المنقوش وكوهين.. وهل ستتجه الدول العربية الى القطع مع هذه اللقاءات وإيقاف مسار التطبيع المجاني واللامشروط أو أنها ستتجه بدلا من ذلك الى مواصلتها مع شرط التكتم عليها ..
كاتبة تونسية