مع عودة الطلبة إلى مدارسهم، أرجو أن يمر العام الدراسي دون يوم إضراب واحد، ولإخوتنا المعلمين نقول لهم: نحن معكم، مطالبكم عادلة ومشروعة، ولكن توجد أساليب وأدوات عديدة جداً للمطالبة بالحقوق، والاحتجاج، والنضال النقابي غير الإضراب.. الإضراب لا يضر سوى بالطلبة، وتجربة الإضرابات السابقة أعطتنا مؤشرات خطيرة على تدهور التعليم وتراجع مستوى الطلبة، سواء الصفوف الابتدائية، حيث فقد الطلبة مهارات القراءة والحساب، أم التوجيهي الذي يواجه ضعف مصداقيته خاصة بالنسبة للجامعات في الخارج، والأهم أن الطلبة تعوّدوا على الغياب والكسل، وصاروا يتمنون الإضراب.
الرجاء الثاني، أن تدرك الحكومة والنظام السياسي أهمية التعليم (وأظن أن المشكلة فيهما وليست في وزارة التربية)، أن تقتنع بجدوى التعليم ومدى أهميته ليس في الشعارات والكلام الإنشائي، بل في الاهتمام الحقيقي، والممارسة الفعلية.. لأن هذا الإدراك تنبني عليه أمور كثيرة وغاية في الأهمية.. (هذا إذا أردنا فعلا التحرر والتقدم والانعتاق).
الرجاء الثالث أن تقوم وزارة التربية بمراجعة أمينة وشجاعة للخطة الإستراتيجية التي تقوم عليها سياسات التعليم، وهذه المراجعة لا تعني مراجعة النصوص والصياغة، لأنَّ ما هو موجود من خطط وأدبيات ومشاريع جيد ومقبول، وكاف لإنقاذ التعليم، أو لوقف تدهوره على الأقل في الأعوام القادمة؛ الأهم من صياغة الأفكار بطريقة بلاغية هو تنفيذ محتواها، وهذا التنفيذ يتطلب متابعة حثيثة، ورقابة، وتقييماً، ومحاسبة، واستخلاص عبر، وتقديم بدائل وخطط تطوير.
الرجاء الرابع أن نهتدي إلى طريقة فعالة للخروج من تلك الحلقة المفرغة المتمثلة بالعلاقة بين المدارس والجامعات والتأهيل المطلوب للمعلم؛ حيث أننا طوال العقود الماضية نربي الطلبة على نهج تعليمي معين، أبرز سماته أنه تقليدي، مسكون بالخوف من التغيير، ينتج طلبة فاقدين لمهارات التفكير النقدي والإبداعي ولأغلب المهارات الحياتية، جلّ همهم حفظ المعلومة والنجاح في الامتحان، ثم نطالب الجامعات (التي ستعيدهم للمدارس معلمين) أن تعيد صياغة نفسياتهم وعقلياتهم وطرائق تفكيرهم ومسلكياتهم إلى مستوى يمكّنهم من تعليم الطلبة مهارات التفكير الناقد والحر والمهارات الحياتية واتباع أساليب التعليم الحديثة.
المشكلة أن الجامعات لا تفعل ذلك، والمدارس لا تكف عن إنتاج أجيال مكررة منسوخة عن بعضها.. ولا أقصد هنا حصول الطلبة على علامات عالية، أو تفوقهم وتخصصهم في مجالات معينة، وقصص نجاحاتهم المهنية هنا وهناك.. المقصود هو إحداث التغيير الثوري في طرق التفكير والإبداع وامتلاك المهارات الحياتية، بحيث ننتج الجيل المنشود الذي نعلق عليه الآمال.
ما تقوم به الوزارة في مجالات تطوير مهارات المعلمين وتأهليهم وتدريبهم على أساليب التعليم الحديث غير كاف، فالأهم من حصول المعلم على دورة تدريبية هو أن نلاحظ التغيير المنشود في سلوكه وطريقة تفكيره وأساليب تدريسه، بمعنى أن يتمثلها في شخصة ووعيه قبل أن يبدأ بتطبيقها على التلاميذ.
ومع أهمية العوامل المادية والظروف الموضوعية (رواتب المعلمين، تأهيل المدارس، توفر المرافق والإمكانيات، المناهج، التكنولوجيا.. إلخ) يبقى عامل تأثير المعلم هو الأهم.
مثلاً، ما يحصل في معظم الأحيان أن يطلب معلم اللغة العربية من طلبته كتابة موضوع إنشاء في موضوع ما، وفي نهاية الحصة يجمع الدفاتر ويصلّحها ويضع علامة لكل طالب.. يأخذ الطالب دفتره ويرى علامته ولا يعرف أين أخفق، وأين أبدع، وما هي الأخطاء التي وقع بها (لا أقصد الأخطاء الإملائية واللغوية)، لا يقوم المعلم بتعليمه كيفية الكتابة الإبداعية.. وقبل ذلك لم يعطه حقه في حرية اختياره للموضوع.. كما لم يعطه حقه في اختيار شاعره المفضل، أو قصيدته التي أحبها، القصيدة مفروضة عليه في المنهاج، وعليه أن يحفظها.. ليس مهماً أن يتذوقها، ولا حق له بانتقادها..هذا لا يحصل لأن المهم عند المعلم وعند المشرف وعند الوزارة إنهاء المقرر في الوقت المحدد! والمهم عند الطالب حصوله على علامة النجاح!
بالمثل يأتي مدرس الفن، ويطلب من الطلبة رسم لوحة؛ شجرة، أو وجه.. ثم يضع العلامات في آخر السنة، دون أن يعرف الطلبة شيئاً عن مدارس الفنون وأجناسه ونظرياته المتنوعة، سيظنون أن الفن يعني الرسم فقط! ونادراً ما ينتبه أحد لوجود مواهب مخبأة، أو واعدة ليعمل على تطويرها وتوجيهها.
كذلك مدرّس الرياضة؛ يُخرج الطلبة إلى الساحة، ويقسمهم إلى فريقين، ويعطيهم كرة ليظلوا يركضون وراءها حتى آخر الحصة، وقد يوزع بقية الطلبة على ألعاب أخرى.. المهم أنهم جميعا ركضوا وفرغوا طاقاتهم.. لكنهم لم يتعلموا شيئاً من علم الرياضة وأسسه، ولم تتم الاستفادة من مواهب بعضهم.. هذا إذا افترضنا أن الطلبة أخذوا حقهم من حصتي الفن والرياضة والتي غالباً ما يتم الاعتداء عليهما ومصادرة حق الطلبة فيهما.. لأن المعلم والمدير لم يدركوا أهمية الفن والرياضة في التربية والتعليم!
وهذه الأمثلة تصلح لقياسها مع بقية المواد: التركيز منصب على الحفظ والتلقين، والإجابة النموذجية، وعلى انضباط الطلبة، ونجاحهم، وعلى التزام المعلم بالمنهاج حرفياً.
لاحظوا كيف يبدأ العام الدراسي: يستقبل المدير ومعه الهيئة التدريسية الطلبة في طابور الصباح، الوجوه عابسة، العيون تقدح شرراً برسائل التحذير عن أي خروج أو تجاوز.. ثم يتلو المدير قائمة الممنوعات، وطبعاً هناك قائمة ممنوعات مضاعفة في مدارس البنات، مفادها ممنوع كل ما له صلة بالجمال والألوان وحب الحياة، ممنوع الفرح واللعب والركض والاختلاف والنقاش وطرح الأسئلة المحرجة.. ممنوع أن تخرج عن الخط المرسوم مسبقاً، وممنوع على المدرسة أن تنتج نسخة مختلفة عن سابقاتها ولاحقاتها.. المطلوب أن نظل في نفس الحلقة نراوح دون تقدم.
ثم تتوالى طوابير الصباح، وإلقاء كلمات في الإذاعة المدرسية وهي مفيدة فقط في تعليم مواجهة الجمهور والخطابة.. أما محتواها فهو غالباً نسخ ولصق عن غوغل، وكلاشيهات مكررة.
تعالوا نتخيل استقبال الطلبة باحتفال غنائي، أو بوعود ومشاريع ستنفذها المدرسة ومن خلال الطلبة، مشاريع وأفكار ومبادرات في شتى المجالات ولكل طالب أن يختار ما يفرحه ويحبه.. مع تجنب ذكر الممنوعات والمحظورات (لأن الطلبة حفظوها غيباً) ولأنّ تجنب الخطأ يحتاج القدوة، والبيئة الحاضنة، والجو المريح، والحوار الديمقراطي المتكافئ.. يحتاج أن يحب الطلبة مدرستهم، وأن يحبوا معلميهم لا أن يخافوا منهم.
أرجو ان يكسر هذا العام الدراسي جزءاً بسيطاً من حلقة التخلف التي تحكمنا منذ قرون.