سلم السودان فرنسا في 15 أغسطس عام 1994، إيليتش راميريز سانشيز المعروف باسم "كارلوس" والذي اشتهر أيضا باسم "ابن آوى" وكان يعرف لمدة طويلة بـ"الإرهابي رقم 1" وخاصة في فرنسا.
طويت في ذلك الوقت صفحات هذا المغامر الفنزويلي في السودان حين كان بقيادة عمر البشير وحسن الترابي، بعد أن دوّخ أجهزة الاستخبارات في الغرب على مدى عقدين من الزمن، وتفرد بكونه ليس مدبرا لهجمات إرهابية مبتكرة وعنيفة فحسب، بل ومنفذا يراه الكثيرون غريب الأطوار وسيء الطباع وعربيدا.
جمع الفنزويلي إيليتش الذي أصبح يعرف لاحقا حين انضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باسم "كارلوس"، المتناقضات، فهو ينحدر من أسرة فنزويلية ثرية ووالده كان محاميا مولعا بالمنظر الشيوعي الرئيس فلاديمير إليتش لينين، إلى حد أنه أطلق على أحد أبنائه فلاديمير والآخر لينين، والثالث إيليتش وهو من تحول إلى "أسطورة" في عالمي "الثورة" و"الإرهاب"!
رواية مثيرة عن طريقة تسليم السودان "كارلوس" إلى فرنسا:
لفترة طويلة كان يعد "كارلوس" الإرهابي رقم 1 في العالم، ووصلت شهرته ذروتها بقيادته بمساعدة اثنين من الإرهابيين الألمان كلاين وتيدمان كريهر وآخرين عملية احتجاز 70 شخصا بينهم 11 وزير نفط تابعين للدول الأعضاء في أوبك بمقرهم في فيينا في 21 ديسمبر عام 1975.
تتفيد التقارير حينها بأن الألماني تيدمان أثناء الاستيلاء على المبنى، أطلق النار على شرطي، فيما قتل كارلوس موظفا لبنانيا وحارسا عراقيا أبدى مقاومة. خلال محاولة لأجهزة الأمن النمساوية اقتحام المقر، أصيب الألماني الثاني كلاين بجروح خطيرة في تبادل إطلاق النار.
يتذكر الرهائن أن كارلوس برز بسلوك لا يمكن التنبؤ به، وأنه كان يتبادل أحاديث "وجدانية" مع رهائنه، ثم يلوح بمسدس ويهدد بإطلاق النار على الجميع، وأنه لم يخف هويته بل كان يتفاخر ويتحدث بحماس عن عملياته الإرهابية في ذلك الموقف الذي كان يعده انتصارا، وأنه تعامل مثل أي نجم شهير وترك توقيعات لضحاياه "كتذكار"، وترك أيضا انطباعا بأنه يعاني من تضخم الذات.
كارلوس كان أطلق على معظم العمليات التي نفذها اسم محمد بودية، وهو جزائري كان من قيادات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان الموساد اغتاله بتفجير سيارته في باريس في 28 يونيو عام 1973.
قبل ذلك تنقل "كارلوس" في أوروبا وخاصة بين باريس ولندن، وكان مولعا بالحفلات وبالعلاقات الغرامية والمتع الدنيوية، ومع ذلك لم تتمكن أجهزة الاستخبارات من النيل منه، حيث نجح في أكثر من مرة في النجاة بأعجوبة من الاعتقال.
اتهم لاحقا بأنه أسس "شركة خاصة للإرهاب" وأنه نفذ عمليات لصالح حكومات ودول مشبوهة، إلا أنه نفى بعد اعتقاله ذلك بشدة. ومع ذلك حاول الغرب ولا يزال إلصاقه بجهاز الاستخبارات السوفيتي الـ"كي جي بي"، وباستخبارات ألمانيا الشرقية "شتازي".
هذا الجهاز الاستخباراتي العتيد كان يطلق على "كارلوس" اسم "الرجل القنبلة"، بسبب حياته الصاخبة وعدم انضباطه، حتى أن ماركوس وولفـ، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية في ألمانيا الشرقية، كان أكد في مذكراته متحدثا عن كارلوس بأنه "كان آخر شخص يمكن للكي جي بي الاتصال به"!
بحلول عام 1994 تغيرت الخارطة السياسية الدولية بانحلال الاتحاد السوفيتي واختلت الموازين. وجد "كارلوس" الشيوعي العتيد السابق وزوجته الأردنية ملجأ في الخرطوم، وهناك أعلن إسلامه، في حين تذكر مصادر أخرى أنه أسلم في فرنسا في سجنه في وقت لاحق في عام 2001.
الرواية المثيرة تقول إن المسؤولين السودانيين في ذلك الوقت رفضوا في البداية تسليم "مارلوس" لفرنسا، بحجة أنه مسلم حصل على اللجوء، وتسليمه يعد خطيئة وانتهاكا لأعراف الضيافة!
الفرنسيون اجتهدوا في إقناع مسؤولي هذا البلد ولوحوا بإمكانية شطب ديون الخرطوم وبقروض محتملة من صندوق النقد الدولي، وأظهروا أشرطة فيديو توثق حياة "كارلوس" الصاخبة وعربدته.
تغير موقف المسؤولين السودانيين، ومالوا إلى الاعتقاد بأن "كارلوس" لم يقاتل لفترة طويلة من أجل القضية الفلسطينية وأنه مسلم غير ملتزم وكان غارقا لفترة طويلة في حياة كسل ورذيلة، وبذلك لم يروا بأسا في تسليمه، لكنهم أصروا على عدم إضفاء الطابع الرسمي على العملية!
لجأوا إلى خدعة.. نقلت الأجهزة الخاصة السودانية كارلوس من منزله إلى إحدى الفيلات في ضواحي الخرطوم، بحجة الاشتباه في محاولة اغتيال. في الليل، حُقن بمهدئ، وسُلم إلى عملاء الاستخبارات الفرنسية في مطار الخرطوم في 15 أغسطس 1994.
لقب ابن آوى حصل عليه "كارلوس" حين لفت أحد الصحفيين الانتباه إلى كتاب عثر عليه أثناء تفتش منزل إحدى صديقاته. الكتاب وهو رواية مثيرة للكاتب البريطاني فريدريك فورسيث تتحدث عن محاولة اغتيال يتعرض لها شارل ديغول بعنوان "يوم ابن آوى".
التصق هذا اللقب بكارلوس، على الرغم من أن الكتاب تبين لاحقا أنه ليس من مقتنياته، بل هو لعشيق هذه المرأة الجديد.
رحلة "ابن آوى" مع أحكام مدى الحياة بدأت في عام 1997، حين صدر أولها، وفي عام 2011 حكم في باريس بمؤبد ثانية، ثم ثالثة وأخيرة في عام 2017، وبذلك لن يكون أمامه أي مجال للحصول على إفراج مبكر!
أنشطة "إيليتش راميريز سانشيز" الإرهابية التي يعدها هو نضالا ثوريا، أودت بحياة 16 شخصا، وهم أولئك الذين تمكنت المحكمة من إثابتهم، إلا أن أكثر التقديرات تحفظا تتحدث عن مسؤوليته عن مقتل أكثر من 1500 شخص!
كارلوس أو "ابن آوى" بدوره لا يزال يتمسك بأفكاره السابقة، ويؤمن بأن السبب الرئيس للكوارث على كوكب الأرض مصدره سياسة الولايات المتحدة، وأنها أهم إرهابي وهي الأكثر خطورة بكثير.
ابن آوى الفنزويلي لا يزال وهو في زنزانته المنفردة في فرنسا يؤكد أنه ليس سجينا في فرنسا، بل يعد نفسه "سجينا لدي الإمبريالية الأمريكية".