مثّلت الفترة المدينية في عهد النبي محمد (عشر سنوات)، وفترة الخلافة الراشدة (ثلاثون سنة) ما يمكن اعتبارها نواة دولة، فقد خلت من جُل أو معظم مقومات الدولة بالمفهوم الحديث، ونقصد بذلك: دستور مكتوب، سلطة تشريعية، حكومة، جهاز قضائي، محاكم، شرطة، جيش محترف، مخابرات، سجون، مؤسسات متخصصة، نظام صحي وتعليمي، قوانين خاصة، وسائل إنتاج، شركات، مصارف.. لم تتوفر مثل تلك المؤسسات في تلك الفترة، وكانت الدولة تُدار بالطريقة القبلية التي كانت سائدة آنذاك، وبنظام اقتصادي بدائي، ولم ترتق الحواضر السكانية في أراض الدولة، ولا الأنماط العمرانية، ولا النظم الإدارية إلى المستوى المتقدم الذي كان سائدا في المراكز الحضرية المجاورة والسابقة.. ولم نعرف عن تلك الفترة نشاطا فكريا أو فلسفيا أو أدبيا أو فنيا باستثناء ما كان يتعلق بنشر الدعوة.
كل ذلك طبيعياً ومتوقعاً وينسجم مع المستوى الحضاري لشبه الجزيرة العربية في القرن السابع، بل إنه شكل نقلة نوعية بتوحيد تلك القبائل المتناحرة ووضعها على أعتاب مرحلة جديدة أكثر رقياً، ستتطور سريعا في المراحل اللاحقة، لكن هذا التطور لم يتم بسلاسة، بل بعنف شديد، فقد شهدت تلك الفترة العديد من الحروب الأهلية (حروب الردة، معركة الجمل، صفين، معارك الخوارج..). وستكون البداية مع الدولة الأموية، حيث سيبدأ تعريب الدواوين، وإنشاء البريد، وتكوين جيش محترف، وسك عملة خاصة، وستتطور أنماط البناء (القصور الأموية مثالا)، وستتسع مساحة الدولة أضعافاً، وسيعود الشعر والأدب تدريجياً، وسنشهد بدايات واعدة لحركة فكرية وفلسفية.
وكل ذلك يأتي في سياق التطور الطبيعي للدول، وبسبب انتقال مركز الدولة إلى دمشق، والتي خبرت أنماطاً حضارية متميزة قبل ذلك بقرون.. ثم سنشهد أول خمسين سنة من العصر العباسي.. وطوال تلك الفترة اتسمت الدولة بالقوة والمركزية وبالعسكرة والاستبداد، وشهدت العديد من الثورات الاجتماعية التي نشبت ضد التسلط والظلم، وقوبلت بالقمع والقسوة، إلى جانب الحروب التوسعية (الفتوحات).. بمعنى أن المسلمين طوال تلك المراحل انشغلوا بالصراعات والحروب والنشاط العسكري، ومتطلبات فرض الأمن وتمكين الدولة وتقوية الجيش.. وبالتالي يمكن القول أن الدولة لم تكن قد انتقلت بعد إلى إلى مرحلة الحضارة؛ لكنها شهدت إرهاصات تكونها (الدبيب الخفيف والنمو البطيء).
في تلك الحقبة ظهر علماء اللغة (سيبويه، الفراهيدي..) والأئمة الأربعة، ورواة الحديث، ومفسرو القرآن، وكتّاب السيرة النبوية..
وفعليا، بدأت الحضارة الإسلامية بالتشكل والنهوض بدءا من نهايات القرن الثامن، وانتهت فعليا مع نهاية القرن الثاني عشر.. خلال تلك القرون الثلاثة (العصر الذهبي) ظهرت كوكبة من علماء الطبيعة (فلك، طب، هندسة، رياضيات، كيمياء..) والعديد من المفكرين والفلاسفة، ونشطت الحركة الأدبية والفنية والعمرانية وأعمال الترجمة والموسيقى، إلى جانب علوم الدين والفقه.. والأغلبية الساحقة من العلماء والفلاسفة والمفكرين والشعراء الذين نعرفهم ونفاخر بهم ينتمون إلى تلك الحقبة تحديدا، مع استثناءات بسيطة جدا قبلها وبعدها.
واللافت للنظر أن تلك الفترة شهدت بداية تفكك الدولة العباسية، وظهور الإمارات المنفصلة، وضعف السلطة المركزية، وفساد الطبقات الحاكمة، وانشغالها بالجواري والقصور، والصراع على السلطة (معظم الخلفاء تم اغتيالهم)، وضعف حضور الفقهاء، وانتشار شعر الخمر والقيان والتغني بالولدان (من المفيد هنا تسليط الضوء على «زرياب» وقصته التي بدأت في بغداد وانتهت في قرطبة). بمعنى أن كل الإنجازات والاختراعات والشواهد الحضارية كانت مبادرات فردية، بدعم من السلطة أحياناً، وبمعارضتها في أغلب الأحيان.. وأغلب هؤلاء المبدعين كانوا من أصول غير عربية.
وفي الجانب الجغرافي والسياسي؛ شملت أراضي دولة الخلافة الراشدة (632-661) الجزيرة العربية وبلدان الهلال الخصيب وإيران ومصر وشمال ليبيا، وفي العصر الأموي (661-750) بلغت الدولة أقصى مدى من الاتساع، فتوسعت شرقا إلى ما وراء النهر (أوزباكستان وقازاغستان، وحتى حدود الصين)، وشمالا حتى جنوب شرق تركيا، وفي الغرب ضمت تونس والأجزاء الشمالية من ليبيا والجزائر والمغرب، بالإضافة للأندلس.. أما في عهد الدولة العباسية (750-1258) فتقلصت المساحات التي ورثتها عن الأمويين، وقد وصلت أقصى اتساعها عام 850، فامتدت من شرق إيران، حتى تونس، وقد خسرت المساحات التي كانت تتبع للأمويين شمال الجزائر والمغرب، كما خسرت الأندلس (التي استقلت).
شملت الدولة الفاطمية (909-1171)، مصر وأجزاء من ليبيا وتونس وشمال الجزائر، وإلى الشرق شملت أجزاء من بلاد الشام والحجاز. أما الدولة الأيوبية (1174-1252) فقد شملت أراضي الفاطميين بالإضافة إلى مساحات إضافية من بلاد الشام، وجنوب الحجاز حتى اليمن. أما الدولة المملوكية (1250-1517) فتقلصت أراضيها واقتصرت على مصر والشام والحجاز. في حين تقلصت أراضي الدولة العثمانية (1299-1923) فخسرت إيران، والجزيرة العربية باستثتاء الحجاز واليمن، لكنها بلغت أقصى اتساعها سنة 1683، فشملت تركيا واليونان ودول البلقان.
وقد انتشر الإسلام في دول إفريقيا شمال خط الاستواء، وفي الهند ووسط وشرق آسيا، لكن تلك البلدان لم تخضع لسلطة أي خلافة إسلامية، وظل المسلمون فيها يتبعون دولهم، ويعيشون طبقا للأنماط الثقافية السائدة في كل بلد. كما هو حالهم اليوم، موزعين على 57 دولة (أغلبية سكانها مسلمون)، وفي عموم دول العالم كجاليات لاجئة أو مغتربة أو كمواطنين.
طوال الألف وأربعمائة سنة الماضية لم تُوجد دولة خلافة مركزية تمتد على عموم الأراضي التي يقطنها مسلمون، بل مرت فترات طويلة كانت بلدان المسلمين مقسمة بين عدة دول تدعي كل دولة منها أنها تمثل الخلافة الشرعية، فقد تزامنت الدولة العباسية ومركزها بغداد، مع القرامطة في البحرين، والحمدانيين شمال العراق، ومع الطولونية ثم الإخشيدية ثم الفاطمية في مصر، والسلاجقة في الأناضول، والأموية في الأندلس، والبويهية في إيران، والأدارسة في المغرب في الوقت ذاته، كما ظهرت إمارات متفرقة شبه مستقلة ومنفصلة عن الدولة المركزية، أو متمردة عليها، وخاصة في الأندلس، كما نشبت حروب طاحنة بين تلك الدول (السلاجقة والبويهيون، الأيوبييون والفاطميون، العثمانيون والمماليك..)، بل إن كل دولة كانت تأتي على أنقاض سابقتها بحرب مدمرة، وبعد سلسلة مذابح دموية.
بدأت نهاية الحضارة الإسلامية مع بدايات حروب الفرنجة (الحملات الصليبية) منذ 1096، واستكملت مع سقوط بغداد على يد التتار (1258)، وانتقال السلطة إلى المماليك والأتراك.. هذا من حيث تأثير العامل الخارجي، أما العوامل الداخلية، فكانت الأهم، وقد تناولتها في مقالات سابقة.