عن تغطية "الجزيرة" لأحداث فلسطين..عبد الغني سلامة

الأربعاء 12 يوليو 2023 10:49 ص / بتوقيت القدس +2GMT
عن تغطية "الجزيرة" لأحداث فلسطين..عبد الغني سلامة




في كل مرة تقع أحداث ساخنة في فلسطين، ومثل كثيرين من أبناء شعبنا أتسمّر قبالة شاشة الجزيرة متابعاً لتغطيتها الإعلامية، والسبب وراء ذلك إخفاق قناة فلسطين وإذاعتها وسائر الإعلام الرسمي في متابعة وتغطية الحدث، هذا أولاً، وثانياً لأن الجزيرة دون سائر القنوات الإخبارية الأخرى تفرد مساحات كبيرة ولفترات طويلة في متابعة الأحداث في بث مباشر، وتوفر من أجل ذلك شبكة واسعة من المراسلين، وتستضيف خبراء ومحللين، وقد تفوقت في هذا المجال لأنها تدرك أهمية فلسطين وما يجري فيها ليس للمهتمين وحسب، بل لعموم الجمهور العربي الإسلامي، نظراً لمكانة فلسطين المتفردة في عقول ووجدان الشعوب.
ولكن هذه التغطية وعلى أهميتها ليست بريئة تماماً، لا سياسياً ولا حتى مهنياً.. وهناك الكثير من الملاحظات السلبية على أداء الجزيرة الإعلامي، خاصة في كل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني.
وقبل ذلك، علينا أن نفهم الدور الوظيفي الذي تؤديه "الجزيرة"، ولعبة تبادل الأدوار بينها وبين دولة قطر، وبالتالي فهم الدور الوظيفي لقطر، وطموحاتها السياسية التي تتجاوز بكثير حجمها الجغرافي والسكاني.
فقد أصبحت الجزيرة بمثابة الناطق الرسمي باسمها، وأداة تنفيذ لسياساتها، فحولت من خلال قوة "الجيوميديا" قطر إلى دولة مهمة، ومنحتها الفرصة لتمارس دوراً سياسياً يفوق إمكانياتها، وجعلتها تتصرف مع الآخرين بفوقية وكأنها مركز العالم، وكأنها الوصي على قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة والحريصة على القضية الفلسطينية أكثر من أصحابها.
وهذا التداخل بين ما هو سياسي وما هو إعلامي معروف على مستوى العالم، وهو أسلوب قطر في العهد الجديد، الذي جعلها تستغني عن القوة العسكرية بعد أن صارت الجزيرة هي قواتها المسلحة.
على أي حال، ما أود قوله عن الجزيرة يُستثنى منه جميع مراسلي الجزيرة في فلسطين، وفي مقدمتهم الشهيدة القديسة شيرين أبو عاقلة، وسائر زملائها المحترمين الذين هم بمثابة جنود وطنيين في معركة الكلمة والوعي.
أي متابع لتغطية الجزيرة لما يجري في فلسطين، سيلمس توجهات معينة أقل ما يقال عنها إنها مثيرة للريبة:
أولاً: تحرص الجزيرة في كل مرة على استضافة متحدثين إسرائيليين (قادة عسكريين وسياسيين وإعلاميين..)، ومن خلالهم تمنح إسرائيل الفرصة لتقديم روايتها، ومبرراتها، وطرح القضية من وجهة نظر صهيونية، والمسألة هنا ليست جريمة تطبيع وحسب، بل هي مساعدة للعدو في تسويق مزاعمه وأطروحاته، وتقريبها للرأي العام العربي والعالمي، فضلاً عن تمريرها للمصطلحات والمفاهيم الإسرائيلية وترسيخها في الوعي الجمعي.. وهنا قد يقول قائل إن المشاهد ذكي ويميز الحق من الباطل.. وهذا طرح في منتهى السذاجة، فالأغلبية الساحقة من الجمهور معلوماتهم عن القضية الفلسطينية سطحية، وعندما يستمعون لوجهة النظر الإسرائيلية من المرجح أن يتقبلوها، حتى ولو جزئياً، فضلاً عن تأثير ذلك المتراكم على العقل الباطن على المدى البعيد؛ أي باتجاه أنسنة العدو وجعله مألوفاً ومقبولاً وتفهم دوافعه وجرائمه.
وثانياً، عند تناولها المسألة من الجانب الفلسطيني فإنها تحرص وبشكل واضح ومبالغ فيه على إبراز دور حماس (وأحياناً الجهاد)، حتى لو لم يكن لها دور حقيقي ومؤثر في الحدث.. المهم عندها إيصال رسالة للمشاهد أنَّ حماس هي مركز الحدث، وهي المقاومة، وهي الحاضرة والمؤثرة.. تنقل هذه الرسالة من خلال الشريط الإخباري أسفل الشاشة، ومن خلال ترديد تصريحات زعماء حماس المقيمين في قطر وتركيا، البعيدين عن مركز الحدث، ومن خلال ترتيب أولويات إيراد الخبر ونقل التصريحات، فأقوال وتصريحات قادة المنظمة والسلطة تأتي بعد حماس، وبشكل يتعمد التقليل من أهميتها، ومن خلال إقحام مصطلحات منفصلة عن الواقع مثل "وحدة الساحات"، و"غرفة العمليات"، و"فرض معادلات جديدة"، و"تغيير قواعد اللعبة" التي دأب الناطقون الرسميون باسم فصائل المقاومة على ترديدها.
كما تحرص الجزيرة وبطريقة مواربة على تجاهل دور فتح وبقية الفصائل وحتى دور الجماهير في صناعة الحدث، فإن لم تستطع تغييبهم فهي على الأقل تورد الخبر بطريقة الرسائل الضمنية، أو من خلال تشتيت الانتباه، فمثلاً يكون الحدث في نابلس أو جنين فتحيل المقاومة إلى نموذج البطولة والصمود في غزة، ودور صواريخ القسام المتواري والمنتظَر، والذي سيقلب المشهد ويغير قواعد الاشتباك ومعادلات الصراع.. إلخ.
وهو أسلوب يعتمد قطع تسلسل الأحداث وعزلها عن سياقها، من خلال صناعة المقارنات والتأثير في بنية السرد، بحيث تعطي للأحداث معنى مختلفاً، وهذا يترتب عليه اغتراب فعلي بين الحدث وطريقة سرده، ما يعكس دوافع السارد وأهدافه السياسية.
وتتضح الصورة أكثر في البرامج الإخبارية (على غرار "ما خفي أعظم")، وفي البرامج الحوارية التي تنتقي فيها متحدثين معينين سواء من فتح أو من حماس، حيث يلاحَظ من طبيعة الأسئلة الموجهة لمتحدث فتح طبيعتها الاستهزائية في بعض الأحيان، ومحاولات تفريغ إجابته من مضمونها، وعدم منحه الوقت الكافي على عكس ما يحدث مع متحدث حماس.
على أي حال، ليس المهم إبراز دور فتح والسلطة وغيرها، فعندما تكون فتح قوية وفاعلة وتستعيد عافيتها تستطيع فرض حضورها على جميع القنوات الإخبارية، وكلنا يعرف حالة الضعف والترهل والتكلس لدى فتح وتراجع دورها الوطني، وحالة التفكك والانقسام التي تشل الكل الفلسطيني.. وهي حالة مأساوية تنذر بكل ما هو خطير.. ما أود قوله إن الجزيرة وفي سياق دورها الإعلامي لتسويق برنامج الإخوان المسلمين الإقليمي تستغل حالة الضعف الفلسطيني، وتسعى لإحداث المزيد من التشققات في الجسم الفلسطيني وتغذية الانقسام وإمداده بالمال.. ولا بد هنا من تذكر الحملات الإعلامية الممنهجة التي بثتها الجزيرة منذ العام 2007، وأرادت من خلالها شيطنة فتح والسلطة تمهيداً لإسقاطهما شعبياً، ومن ثم توريث حماس تمثيل القضية الفلسطينية، وتمثيل دور المقاومة، وقيادة الشعب الفلسطيني، لتحقيق الهدف النهائي: دويلة غزة، وإنهاء الصراع.