من وحي الوطن

ثأر الأحرار: المعركة وتساؤلات الشارع والميدان!! د. أحمد يوسف

الأربعاء 17 مايو 2023 01:13 م / بتوقيت القدس +2GMT
ثأر الأحرار: المعركة وتساؤلات الشارع والميدان!! د. أحمد يوسف



هذه هي المواجهة الثانية لحركة الجهاد الإسلامي في التصدي للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة خلال أقل من عام، مع أداءٍ ميداني منضبط، ونبرة أخوية مسؤولة تعكس تفاهمات رائعة داخل "غرفة العمليات المشتركة"، إذ لم يصاحب تفرد سرايا القدس بالميدان ما يعكس ما أرادته إسرائيل من استفراد بحركة الجهاد، إذ ظل التواصل قائماً بين الطرفين، وكانت "غرفة العمليات" هي ناظم العلاقة فيما يتعلق بالرد العسكري، وإذا ما كانت هناك حاجة تستدعي توسيع دائرة المواجهة وفضاءات النار، والدخول في حرب لا مجال فيها لأحدٍ للتهرب وتقديم الأعذار.

 في المشهد السياسي الإسرائيلي، كان من الواضح أنَّ الأمور تتجه إلى غير مصلحة نتنياهو وحكومته اليمينية الدينية المتطرفة، حيث اتسعت دائرة الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي بين العلمانيين والليبراليين من ناحية وتيارات الصهيونية الدينية المتطرفة من ناحية أخرى، وأخذت الخلافات تتحرك بشكل متسارع إلى الشارع على شكل مظاهرات بمئات الآلاف من كلا الطرفين، وغدت حالة الاستقطاب والتنائي مرشحة لمواجهات تتجاوز الأيدي بين أنصار المعسكرين،  لتعطيل أو فرض فرص نتنياهو في التغيير الذي يسعى إليه في السلك القضائي، للنجاة من "الملاحقة" التي قد تودي به إلى السجن وشطب مستقبله السياسي.

ومع تعاظم قوة المعارضة لحكومة نتنياهو واشتداد وتيرة التظاهرات، كانت أغلب توقعات المحللين والخبراء السياسيين في الشأن الإسرائيلي تشير إلى أنَّ نتنياهو سيبحث له عن مخرج من هذه "الورطة الداخلية" وحالة التشرذم والانقسام، عبر افتعال "حرب محدودة" مع فطاع غزة، كونها الطرف الأضعف والأقل كُلفة أمنية، حيث إن خيارات المواجهة مع إيران أو حزب الله تحتاج إلى إسناد عسكري ومعلوماتي ولوجستي أمريكي كبير، وهذه عملية قد تفجر المنطقة وليس بإمكانه الحصول على موافقة عليها، حيث إن إدارة الرئيس بايدن لا تريد التورط في حروب أخرى تحرف مسار التركيز والحشد الدولي عن الحرب الدائرة في أوكرانيا.

ظل نتنياهو يحاول مجاراة شركائه في الإتلاف الحاكم بن غفير وسموتريش، وملاحقة طلباتهم في الأخذ بقوة على أيدي المقاومين في الضفة الغربية، وأكثر من ذلك باعتماد سياسة القتل والاغتيالات في قطاع غزة.

من المعروف أنَّ خيارات نتنياهو محدودة البدائل، وليس أمامه إلا الانصياع لطلبات من يهددونه بالانسحاب من التحالف وانهيار حكومته إذا لم يرضخ لطلباتهم.

من هنا، جاءت عملية اغتيال ثلاثة من قيادات الجهاد المباغتة كمحاولة لترضية هؤلاء الشركاء من جانب، وإشغال الرأي العام في إسرائيل بالتهديدات "الأمنية" من جانب آخر، حيث جرت العادة -ومنذ قيام هذه الدولة المارقة- أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"!!

قد يكون نتنياهو نجح في عملية اغتيال هؤلاء القادة العسكريين، إلا أنَّ ردَّ حركة الجهاد كان مفاجئاً، ولم يتوقعه نتنياهو لا من حيث حجم الرد ولا الطريقة والأسلوب، فالتكتيك كان بارعاً إذ تريثت الحركة في الرد لأكثر من 24 ساعة، وتركت مساحة زمنية من الوقت جعلت إسرائيل في حالة من الترقب والقلق والتزام الملاجئ، وشغلت أيضاً عقلية الأجهزة الأمنية بالتكهنات والعجز عن فهم ما تُحضِّر له "عرفة العمليات المشتركة" من ردٍّ وحجم هذا الرد، وهل ستُجرُّ إسرائيل إلى حرب جديدة؟ مشهدٌ ربما تعصف تصعيداتُه بكلِّ حسابات نتنياهو وحكومته.

كانت هذه الخطوة -بلا شكّ- تكتيكاً ذكيِّاً من قبل الإخوة في قيادة الجهاد، إذ استفادت من كسب يومٍ أبقت فيه إسرائيل في حالة من الشلل التام والخوف والترقب، وفي الوقت نفسه أعطت لنفسها الوقت الكافي لمشاورة حلفائها في الداخل والخارج لطبيعة الرد والتصعيد وشكل المشاركة وحجمها.

في المقابل، كانت إسرائيل تردد على لسان قادتها أن المستهدف هو حركة الجهاد، وترسل الرسائل عبر تصريحات بعض المسؤولين والإعلاميين والوسطاء الإقليميين بأن حركة حماس غير مستهدفة، وهي بالطبع لعبة مكشوفة لم تنطلي على أحد، وقد سبق أن مارستها إسرائيل من قبل في سياق سياسة "فرق تسد".

نعم؛ كان التفاهم بين الإخوة في حركتي الجهاد وحماس أن تبدأ سرايا القدس ضرباتها العسكرية الأولى لوجود مبررات الانتقام لشهدائها الثلاثة، ثم متابعة ردةِ الفعل الإسرائيلية، ثم يكون التقييم من حيث الاستمرار أو التوقف عند ذلك الحد.

في الغالب، كان نتنياهو يتطلع إلى ضربة تمنحه نصراً مبكراً يُرضي مطالبات شركائه الذين يهددون مستقبل حكومته، وإشغال الإسرائيليين بالملف الأمني من جديد، بدل تلك التظاهرات والاستقطاب السياسي الذي أخذ بتلابيب الجميع من يمين ويسار.  

لأول مرة أشعر بالارتياح من سير العمليات العسكرية والاحتضان الشعبي الكبير لها، إذ كان واضحاً أنَّ هناك ما يكفي من المبررات للرد، والعالم سيتفهم ذلك، فإسرائيل هي من بدأت العدوان وذرائعها غير مقنعة، وأنَّ ما قامت به هو جريمة حربٍ مكتملة الأركان.

كان الشارع الفلسطيني بكل مشاعره يقف خلف المقاومة ويهتف لها، وقد كسبت حركة الجهاد الكثير من التعاطف والاحترام، ولم يُحمِّلها أحدٌ مسؤولية ما ارتكبته آلة الحرب الإسرائيلية من جرائم إنسانية بحق الفلسطينيين، وما أصاب قطاع غزة من دمار واستهداف للمدنيين من نساء وأطفال.

يبقى السؤال الذي يدور في أذهان الكثيرين من الفلسطينيين: لماذا بدا مشهد المواجهة وكأنَّ المعركة هي فقط بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي؟ ولماذا كانت مواقف حماس تأتي على استحياء، فلم نسمع هناك ولو على مستوى الخطاب والتحرك أنها في قلب المعركة، وأنَّ هناك أثراً لوحدة الساحات؟!

قد يكون التنسيق بين حركتي حماس والجهاد قد تمَّ على درجة عالية من السرية والتفاهم فالحرب خدعة، وبهدف سدِّ باب الذرائع أمام العدو الإسرائيلي من توسيع عدوانه ليطال الجميع، حيث إنَّ المعركة لم يكن يُراد لها أن تطول وتتوسع، فعين الفلسطينيين ترقب المشهد السياسي في إسرائيل، وتأمل بتعاظم الشرخ الداخلي وتصدع أركان هذا الكيان.. وعليه؛ فإن إطالة أمد المواجهة وبكلِّ الثقل الذي تمثله المقاومة لن يخدم رؤيتنا في تفكيك هذا الكيان وتصديع جدران وحدته.. ففي التفكير الاستراتيجي لكيفية مواجهة هذا العدو الصهيوني ودولته المارقة، فإن الحكمة تقتضي إصلاح العلاقة مع عمقنا العربي والإسلامي، وكسب التعاطف الدولي لصالح قضيتنا الفلسطينية، وحشد كلّ المواقف السياسية والإنسانية والقانونية تجاه مظلوميتنا الفلسطينية، وتعرية إسرائيل كدولة احتلال بنظام عنصري وسلوك فاشي مضى عليه اليوم 75 عاماً.

إنَّ إسرائيل كانت تأمل من وراء هذه الجولة من المواجهات ترسيخ قواعد اشتباك جديدة توطِّن في ذهن الفلسطينيين أنَّ يدها يمكنها أن تطال كلَّ من يشكل تهديداً أمنياً لها من قادة المقاومة، وأنَّ بإمكانها وهي تخوض معركتها مع طرفٍ أن تعزل الطرف الثاني وتحيده، فهل نجحت في ذلك؟ سؤال برسم قادم المواجهات.

ختاماً.. مع إدراكنا لحقيقة التفاهمات بين حركتي الجهاد وحماس، إلا أنَّ هناك لغزاً يفرض نفسه على أسئلة وذهن الشارع الفلسطيني: أيعقل أن تكون مقاوماً والمعركة قد حمي وطيسها في عقر دارك، وأن تكتفي بالمشاهدة والترحم على الشهداء؟ سؤالٌ بانتظار الإجابة عليه حتى لا تتكرر التساؤلات وتتسع الثغرات أمام المُرجفين والمتربصين للتشكيك والطعن؟!