رغم التصعيد الجديد من جهة الجولان السوري، الذي أطلقت نحوه، ليلة أمس، ثلاثة صواريخ، ورغم انتقادات واسعة لرد الفعل المحدود و”الخفيف” على استهداف سيادتها وهيبتها في الأيام الأخيرة في عدة جبهات، تتجه إسرائيل لعدم التصعيد في المرحلة الراهنة امتثالاً لتوصية المؤسسة الأمنية. ويتضح من متابعة الكثير من السجالات والكتابات حول الأوضاع الأمنية المتفجرة أن المؤسسة الأمنية في إسرائيل قررّت توخي الحذر وعدم تطبيق دعوات المستوى السياسي لرد مجلجل عنيف ضد لبنان وغزة.
وتأخذ المؤسسة الأمنية بالحسبان الحاجة بعدم تكرار سيناريو هبة الكرامة في مايو/ أيار 2021، عندما نجحت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بـ “توحيد الساحات”، بما فيها أراضي 48، في انتفاضة أو جبهة واحدة. ويبدو أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أجمعت على ضرورة توخي الحذر الشديد بسبب حساسية التوقيت المتزامن مع رمضان، واعتكاف عشرات آلاف الفلسطينيين في هذه الفترة داخل الحرم القدسي الشريف، الذي أثارت مشاهد اقتحامه كل الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر، وقرّبتهم من حالة انفجار. مثلما تأخذ بالحسبان أن التصعيد في الداخل يمكن أن يرافقه تصعيد من الأراضي اللبنانية والسورية أيضاً، مما يعني الوقوع في فخّ يخطط له أعداء إسرائيل، وعلى رأسهم إيران التي تعمل لمحاصرة إسرائيل، بما يشبه فكي الكماشة، كما قال الجنرال في الاحتياط عاموس يادلين.
ويبدو أيضاً أن إسرائيل تبحث عن تحاشي ما يشغلها عن متابعة الملف الإيراني، في ظل نجاح إيران بالتقرّب من دول الخليج، وتوثيق علاقاتها مع روسيا ومع الصين، ولذا فقد جاءت تهديدات نتنياهو وعدد من الساسة الإسرائيليين محاولة لامتصاص الغضب الواسع، في ظل وجود انتقادات وتساؤلات في إسرائيل عن ضعف الرد الإسرائيلي، الذي وصفته بعض الجهات الإسرائيلية بالجبان.
غير أن كل ذلك لا يلغي خيار اللجوء للقوة المفرطة والدموية لاحقاً عندما تتاح فرصة عملياتية، وعندما تكون الأوضاع في الداخل قد هدأت، كي لا “تلتحم الساحات، لا سيما أن تجارب الماضي تدلل على أن إسرائيل تستمرئ أيضاً الانتقام البارد وليس الفوري، والبحث عن تخدير أعدائها كي تتمكن من مباغتتهم والتأثير على وعيهم بعمليات مفاجأة وقوية”.
تجدد الاقتحامات
رغم التحذيرات من انفجار الأوضاع مجدداً، سمحت حكومة الاحتلال، هذا الصباح، باقتحامات المستوطنين وزيارات اليهود للحرم القدسي الشريف، تزامناً مع ما يعرف بيوم “بركات الحاخامات”، وهو جزء من عيد الفصح اليهودي، وفي المقابل تتصاعد الانتقادات الإسرائيلية لسياساتها وإدارتها الأزمة الراهنة. وصعدت جهات واسعة مختلفة داخل إسرائيل توجيه الانتقادات وإصبع الاتهام لحكومة الاحتلال في التسبّب بتصاعد التوتر الأمني، وتشجيع أعدائها على التجرؤ عليها بشكل غير مسبوق. ورغم تصريحات سابقة له، بأنه يعاضدها ضد الأعداء، أكد رئيس المعارضة يائير لبيد مجدداً أن حكومة نتنياهو تقود البلاد إلى حالة فوضى لأنها تضع المسؤولية عن المكان الأكثر حساسية في القدس والبلاد بيد إيتمار بن غفير، الشخص الأكثر تطرفاً بين الإسرائيليين.
في حديث للإذاعة العبرية، قال لبيد ضمن انتقاداته إن حكومة نتنياهو ترى النار الأكبر في الشرق الأوسط فتختار أن تصب البنزين عليها، ثم تفاجئ إسرائيل بحدوث كوارث. ومن عيّن بن غفير وزيراً للأمن القومي عليه ألا يفاجأ بهذه النتائج”.
وحمل لبيد بشدة على وزير الأمن القومي المدان بالإرهاب في محاكم إسرائيلية إيتمار بن غفير، واصفاً إياه بـ “وزير التكتوك المهرج مشعل النار”. وتابع لبيد: “هذا الموتور لا يعرف ما يقوم به، ولا يهمه أن يحترق الشرق الأوسط، وكل ذلك يحدث لنا دون وجود دعاية توضح موقف إسرائيل في العالم تخفف من وطأة صور ضرب النساء والشيوخ في الأقصى“.
الاحتجاجات تعزّز مناعة إسرائيل
ورداً على سؤال عما إذا كان يسمح بدخول يهود للحرم القسي الشريف في مثل هذه الفترة، قال لبيد:
“ينبغي أن نحاذر بالتعامل مع هذا المكان الحساس الذي يشبه برميل بارود، وأن نسعى لمنع صدور صور مشاهد الضرب داخل المسجد وفي محيطه.
في فترتي كنت أمنع دخول أي جندي للمسجد الأقصى إلا بموافقتي، وعندما يكون هناك مبرر حقيقي لذلك. ينبغي التنسيق بين إدارة الموقف والتصرف بعقل وحكمة، لكن بن غفير بدلاً من فعل ذلك يبحث عن مزاودات، وعن صورة في التكتوك، وعلى نتنياهو أن يتحمل مسؤولية”.
ورداً على سؤال آخر، عَقِبَ خروج ربع مليون إسرائيلي للتظاهر مجدداً ضد الحكومة، قال لبيد إن الاحتجاجات والمظاهرات ضد التشريعات الانقلابية لا تقلّل من مناعة وحصانة إسرائيل، بل بالعكس تماماً. وجاءت أقواله هذه بعدما كان إيتمار بن غفير قد حمل على المعارضة، وقال إن المتظاهرين في تل أبيب هم من يشجعون أعداءنا على التصعيد وفتح معركة ضدنا بعمليات إرهابية “. كما قال بن غفير، في تغريدة جديدة، إنه رفض المقترحات الخاصة بالحد من دخول اليهود إلى الحرم القدسي في العيد، واعتبرها “مكافأة للتهديدات”. أما الوزيرة عن حزب “الصهيونية الدينية”، وزيرة التقاليد والجاليات اليهودية أوريت ستروك فتقول: “يجب تجديد الردع الإسرائيلي”. وتبعها، في حديث لذات الإذاعة، رئيس الموساد الأسبق إفرايم هليفي، الذي دعا لوقف فوري للتشريعات والاحتجاجات بسب التطورات الأمنية، مكتفياً بانتقادات بشكل غير مباشر وبالتلميح لإدارة حكومة الاحتلال للأزمة بطريقة غير مهنية ملمّحاً لقلقه من وجود عدد من الوزراء غير المجرّبين داخل المجلس الوزاري المصغر.
خطة التقسيم
من جهته حذّرَ الجنرال في الاحتياط جيورا ايلاند مما أسماه “خطة التقسيم” الجديدة، واعتبرَها التحدي الأكبر الماثل امام اسرائيل اليوم، قاصداً بذلك وحدة الساحات وتكرار سيناريو أحداث مايو/ أيار 2021. واعتبر، في مقال نشرته “يديعوت أحرونوت” اليوم، أنه على إسرائيل تقسيم الجبهات ومنع توحدها، والعمل على استعادة الشرعية الدولية التي فقدت بسبب التصريحات عديمة المسؤولية لبعض أعضاء الكنيست والوزراء”. ويعرب ايلاند، على غرار أوساط إسرائيلية أخرى، عن الخشية من احتمال فتح جبهة جديدة من جهة الأراضي السورية، بالإضافة لبقية الجبهات التي تشهد كافتها عملية تسخين وتصعيد.
وتحت عنوان “على طريق الأمن”، وجّهت وزيرة التربية والتعليم السابقة عن حزب “الليكود” ليمور ليفنات انتقادات لسوء إدارة حكومة الاحتلال للأزمة، وقالت إنه “مقابل الإرهاب المنفلت، يجب على نتنياهو أن يظهر مسؤولية، ويعلن عن إلغاء التعديلات القضائية”.
حكومة الفوضى
وتحت عنوان “حكومة الفوضى” حملت صحيفة “هآرتس”، في افتتاحيتها اليوم الأحد، على حكومة نتنياهو، وأكدت أنها تقود إسرائيل إلى فوضى لم تحصل من قبل. واعتبر المحلل العسكري في الصحيفة عاموس هارئيل أن هناك تحدياً مضاعفاً ومتصاعداً: “إيران تشجع العمليات والشباب الفلسطيني يتجاوب. من جهة أخرى فإن الجولة الحالية تشير إلى وجود خلل جدي، مع ازدياد الثقة لدى أعداء إسرائيل، مما يؤدي لضعف الردع الإسرائيلي”. وكالعادة كان الصحافي جدعون ليفي الأكثر وضوحاً ونقداً بتأكيده اليوم أن “إسرائيل لا تريد التهدئة”.
الدولة تشتعل
وقال محرّر الشؤون الدولية في القناة العبرية 13 أيال نداف، في مقال نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، إن”الدولة تشتعل، ووزير الأمن القومي بن غفير يواصل التغريد على التويتر مركّزاً نشاطه على الإعلام والتصريحات”. وهذا ما أكده زميله المحلل السياسي في الصحيفة شيمعون شيفر، لكنه لا يكتفي بالبحث عن حلول أمنية، بل يدعو لما هو طبيعي وأصلي أكثر في قراءته، بقوله “إن الأرض تشتعل، وإن الرد الإسرائيلي على الإرهاب يجب أن يكون شديداً، ولكن من بعد ذلك يجب الإشارة والبحث عن أفق سياسي مع الفلسطينيين”.
الحكومة فشلت
وحتى صحيفة “يسرائيل هيوم”، المقربة من نتنياهو، انضمت للانتقادات المزدوجة للحكومة بأنها فشلت في إدارة الأزمة ومنع التصعيد، وأنها اكتفت برد مخفّف على استهداف سيادتها وهيبتها بالصواريخ.
وتحت عنوان “أعياد في ظل الهجمات” أشارت “يسرائيل هيوم” لنشر وحدات من الجنود في الاحتياط لدعم الشرطة في الشوارع العامة، مؤكدة، هي الأخرى، أن “تجربة الحكومة اليمينية الكاملة فشلت فشلاً كاملاً”.
ومن جهته اعتبر محرر الشؤون الفلسطينية في الصحيفة أرئيل كهانا أن نتنياهو فشل في مهمته حارساً لإسرائيل، ودعا المحلل العسكري في الصحيفة يوآف ليمور لضرورة العودة إلى سياسة الحكومة السابقة: “يجب ألا يكون الرد على إطلاق النار من غزة ولبنان رداً لمرة واحدة، بل يجب مهاجمة كل عملية إطلاق والرد عليها. من المتوقع أن يستمر الوضع الصعب على الأقل حتى يوم الاستقلال (النكبة)، وهذا يتطلب إعادة نظام الدعاية والإعلام إلى العمل بكامل طاقته”.
أما زميلته المعلقة في “يسرائيل هيوم” الصحافية دانا بن شمعون فقد اعتبرت أنه على إسرائيل أن تضع خطوطاً حمراء واضحة أمام “حماس”، معتبرة أن خط الهجمات المنسقة من عدة قطاعات هو مقدمة للحرب.
وتتابع: “لم تكن جميع العمليات التي استهدفت إسرائيل، في الأسبوع الماضي، تهديداً جديداً وغير معروف، فالسياق العام الذي جمع الهجمات يشير إلى تحول خطير في الوضع الأمني في إسرائيل. هناك جهد متزايد، بدأ منذ أكثر من عقد بتوجيه ودعم إيران، تم بناء غلاف من التهديدات المنسقة في محيط الدولة”.
تحقق سيناريو تخشاه إسرائيل
نينا فوكس، مراسلة صحيفة يديعوت أحرونوت، أكدت أن "السيناريو الذي كانوا يخشونه في إسرائيل قد تحقق، من خلال تحقق تسلسل العمليات الفدائية خلال عيد الفصح، وشملت إطلاق صواريخ من لبنان وقطاع غزة، وهجمات دامية، حتى أن جميع محاولات التهدئة التي تضمنت اجتماعات قمة دبلوماسية أمنية مع السلطة الفلسطينية في مصر والأردن كانت بلا جدوى، ووسط هذه الفوضى، تأمل دولة الاحتلال أن يمرّ شهر رمضان في الواقع بهدوء نسبي مع انتهاء الصلاة في المسجد الأقصى دون مواجهات غير عادية مع قوات الاحتلال".
وأضافت في تقرير أن "مخاوف الاحتلال من نجاح كمين مخطط جيدًا أعده الفلسطينيون لإسرائيل، حين تحصن مئات المصلين في المسجد الأقصى، بالتزامن مع حدة الانقسام المتزايد في المجتمع الإسرائيلي، الذي يوشك أن يخترق الجيش والأجهزة الأمنية، والتخوف من تلاقي كل الجهات المعادية في جميع الساحات المحيطة، وتحديدا من جنوب لبنان، مع تزايد النشاطات المسلحة قرب الحدود عقب هجوم مجدّو، واستعداد الأعداء لإلحاق الأذى بأوضاع الاحتلال من أجل إقامة معادلات جديدة".
وأشارت إلى أن "المحافل الإسرائيلية تعتقد بوجود مخططات هجومية ضدها على أساس فهم العدو أن إسرائيل أضعف من الرد في هذا الوقت، في حين أن الدعم الدولي لها أضعف من أي وقت مضى، بالتزامن مع وجود خطر حقيقي يضعف الجيش الإسرائيلي، الذي واصل شن الهجمات الجوية على سوريا لإحباط هجوم بطائرة مسيرة إيرانية في العمق الإسرائيلي، وفي إحداها أظهرت صور الأقمار الصناعية تدمير حظيرة طائرات ومركز قيادة لطائرات دون طيار وعربة تستخدم للاتصال".
وأكدت أن "أوساط وزير الحرب يوآف غالانت تتحدث عن جهود متواصلة لإلحاق الأذى بدولة الاحتلال من أماكن لم يعتد عليها في السنوات الأخيرة، ما يجعل من محاولات الجبهة الشمالية علامة مقلقة يجب مواجهتها، وفي الوقت ذاته اندلعت الأحداث والمواجهات في الساحة الفلسطينية داخل المسجد الأقصى، من حيث ضرب رجال الشرطة للمصلين داخل المسجد بالهراوات والبنادق، ثم اعتقلوا المئات في طابور، ومنذ ذلك الحين تحقق "تقارب الساحات" الذي تحدث عنه الوزير".
وبدأ التقاء هذه الساحات بوابل من الصواريخ باتجاه سديروت والنقب بعد ساعات من بدء الهجوم على المسجد الأقصى، كما دقت أجهزة الإنذار في وقت لاحق، وتم إطلاق عشرات الصواريخ، فيما هاجم الجيش أهدافاً فلسطينية في غزة، ولم يكن هذا سوى مقدمة لما سيأتي بعد ذلك من إطلاق وابل صاروخي غير عادي من لبنان، بإجمالي 34 عملية إطلاق تجاه مستوطنات الجليل الغربي، وهو أعنف وابل منذ حرب لبنان الثانية 2006.
الخلاصة الإسرائيلية أن الاحتلال يواجه الآن تحديات كبيرة، بالتزامن مع تحذيرات عديدة للمسؤولين الأمنيين الإسرائيليين من أن التصريحات المتطرفة لوزراء الحكومة قد تساعد باندلاع حريق كبير، لأن مثل هذه التصريحات تصب مزيدا من النار في الحملة التحريضية التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية، لأن أحداث معركة سيف القدس 2021 أكدت أن الحريق قد يندلع بسرعة، ولهذا السبب أمر قائدا الشرطة والجيش بتعبئة الاحتياط.