كشف النقاب، عن وثائق سرّية تظهر الخطط المتبادلة بين وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) والجيش الأوكراني حول العمليات الحربية الجارية في الميدان، وخطط الهجوم المضاد الواسع ضد القوات الروسية، الذي قد يبدأ خلال الأسابيع القليلة المقبلة؛ وهو ما دفع البنتاغون لفتح تحقيق داخلي.
وظهرت الوثائق هذا الأسبوع على منصات "تليغرام" و"تويتر"، قبل أن تنتشر بسرعة البرق بين المعلّقين خلال اليومين الماضيين، ما دفع البنتاغون لمطالبة مواقع التواصل بتعقّب وحذف كل المنشورات التي تتعاطى مع التسريب؛ وهو ما لم يحصل حتى اللحظة.
تسريبات مبكّرة.. على منصات اللعب والدردشة
لكن اللافت، كما يظهر في تغريدة لأحد المعلّقين، هو أنّ التسريب وقع في وقت مبكّر من مارس/ آذار الماضي، عبر غرف الدردشة الخاصة المعروفة باسم "ديسكورد"، التي تجمع عادة هواة الألعاب الإلكترونية، إذ يتكرر ظهور تلك الوثائق تحت حساب باسم "لوكا"، مستخدماً صورة لما يظهر أنه جندي روسي.
واللافت أنّ التسريبات تتضمن، أيضاً، وثائق سرية أخرى، أبعد من الحرب الأوكرانية، لمداولات يبدو أنها أجريت داخل الدوائر السياسية-الأمنية الأميركية؛ إذ تظهر وثيقة، على سبيل المثال، تقييماً أميركيّاً للوضع في الضفة الغربية بعد قمة العقبة في 26 فبراير/ شباط الماضي، والتي تزامنت مع عملية فلسطينية في حوارة، أعقبها هجوم واسع لعصابات المستوطنين على المدنيين. وتظهر وثيقة أخرى حديثاً أميركيّاً عن "ضغوط صينية" تتصل بنشر شبكة 5G في الأردن.
وقالت نائبة المتحدث باسم البنتاغون، سابرينا سينغ، إنّ وزارة الدفاع "على علم بالتقارير حول المنشورات على وسائل التواصل، وهي في طور مراجعة الأمر".
التخطيط للهجوم المضاد
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإنّ الوثائق لا تكشف معلومات محددة حول خطط الهجوم الذي ألمح مسؤولون أميركيون إلى أنه سيبدأ بحلول مايو/ أيار المقبل، إلا أنها تعطي تصوّراً حول التوقيت، ورؤية المسؤولين الأمنيين في الولايات المتحدة وأوكرانيا بخصوص ما تحتاجه القوات من أجل حملتها لاقتطاع المكاسب الروسية في الشرق والجنوب.
ومن ضمن المعلومات التي قد تستخدمها القوات الروسية، كما تشرح "نيويورك تايمز"، هو معدل الإنفاق على أنظمة القذائف الصاروخية عالية الحركة (هيرماس)، التي استفادت منها القوات الأوكرانية بشكل فعّال في ساحات القتال، بالنظر إلى مقدرتها على استهداف مرابض القوات والذخيرة من مسافة بعيدة. وفي حين لم يذكر البنتاغون علانية مدى السرعة التي تشغل فيها القوات الأوكرانية تلك الأنظمة، إلا أن الوثائق تكشف عن ذلك؛ ما قد يمنح القوات الروسية هامشاً للمناورة والتوقع.
وتعرض وثيقة ممهورة بختم "سري للغاية"، أكد محللون للصحيفة الأميركية أنها "أصلية"، حالة المعارك على الأرض اعتباراً من بداية مارس/ آذار، وتتضمن أخرى بيانات حول الوحدات القتالية في الجيش الأوكراني، ومعداتها، وتدريبها، مع جداول زمنية تبدأ من يناير/ كانون الثاني، وصولاً إلى استشراف الحالة العملياتية حتى أبريل/ نيسان الجاري.
وتصف الوثيقة ذاتها حالة 12 فرقة قتالية يجرى تجميعها في الجيش، بينما تخضع للتدريب والتسليح والتذخير من قبل الولايات المتحدة وحلفاء آخرين في حلف شمال الأطلسي "الناتو". ومن بين تلك الفرق التسع تعيّن الوثيقة 6 فرق ستكون جاهزة بحلول 31 مارس/ آذار الماضي، في حين ينتظر تجهيز الثلاث الباقية بحلول 30 أبريل/ نيسان الجاري. وبحسب ما تنقل "نيويورك تايمز" عن محللين، فإنّ الفرقة تتألف من 4000 إلى 5000 جندي.
ومن ضمن المعلومات التي تبدو حساسة، كما يظهر في وثيقة أخرى لم تشر إليها الصحيفة، هو تعيين المناطق المناسبة لمناورة القوات البرية؛ أي الأراضي التي لا تشوبها وعورة أو عوائق طبيعية. وبحسب ما يظهر في الوثيقة، فإنّ المنطقة المعلّمة بوصفها "مناسبة لمناورة القوات"، تمتد في محيط دونيتسك، إحدى المناطق الانفصالية ذات الأغلبية الروسية في أوكرانيا، والتي أحكم الجيش الروسي وموالوه من المليشيات شبه العسكرية هناك قبضتهم عليها خلال الحرب. ومن شأن أي اختراق أوكراني هناك أن يقطع الجغرافيا الواصلة بين الجيش الروسي في الشمال والجنوب، ويترك شبه جزيرة القرم كذلك معزولة عن خطوط الإمداد البرية.
ومن بين ما تحتويه التسريبات، كذلك، بعض التقديرات حول أحوال الطقس ومدى ملاءمتها للهجوم المضاد، ما يؤكد أنّ القوات الأوكرانية تتطلّع إلى الربيع باعتباره المساحة الزمنية الأمثل للتحرك.
"انقلاب استخباراتي كبير"
وتصف الصحيفة هذه الوثائق بأنها "انقلاب استخباراتي" كبير لموسكو، بعدما كبّدها الغرب ضربات استخبارية مؤلمة، لا سيما مع بداية الحرب. الأمر بدأ حتى ما قبل ساعة الصفر للهجوم الروسي في 24 فبراير/ شباط 2022، من دون تسريبات أو عمل في الخفاء، حينما ظلّ المسؤولون الأميركيون، من البنتاغون إلى البيت الأبيض، يرددون أنّ النصر الروسي سيكون سريعاً، وأن موسكو ستحقق سيطرة مطلقة على الأجواء في غضون أيام، وستدخل كييف في فترة أسبوعين.
لكن مع بداية الحرب، وجدت القوات الروسية نفسها في طريق موحل، وتلقّت ضربات موجعة، إثر معلومات استخباراتية حساسة قدّمتها الولايات المتحدة للقوات الأوكرانية، أسفرت عن قطع أوصال القوات الروسية في الخطوط الأمامية، وحرمانها من خطوط الإمداد، واغتيال جنرالات كبار في الجيش الروسي في مأمنهم، وتراجع القوات البرية عن المناورة والحركة الميدانية بصورة كبيرة.
وبحسب ضابط الاستخبارات والأمن السابق في الجيش البريطاني، فيليب إنغرام، فإنّ التسريبات تعطي القوات الروسية معلومات مهمة حول وجهة الهجوم الأوكراني؛ عدد القوات التي تحتاجها للهجوم، كمية الأسلحة الغربية الجديدة المستخدمة في الهجوم ونوعيتها، ومتى سينتهي تدريب الأوكرانيين عليها.
وتلخّص إحدى الوثائق التدريبات التي تلقّتها 12 فرقة أوكرانية، وتسجّل أنّ أوكرانيا لا تزال بحاجة إلى 250 دبابة و350 مركبة ميكانيكية. وتظهر وثيقة أخرى خرائط توزيع الأسلحة على القوات الأوكرانية وتكاليفها، ومكامن قوة الكتائب في الجيش الأوكراني.
"عملية اللحم المفروم"
وبحسب قراءة إنغرام، لقناة سكاي نيوز البريطانية، فإنّ المعلومات المسرّبة قد لا تكون حقيقيّة بالضرورة، وربّما كان تسريبها متعمّداً بغرض الخداع، سواء من جانب أوكرانيا وحلفائها الغربيين، أو من الجانب الروسي.
ويذكّر إنغرام، في هذا السياق، بـ"عملية اللحم المفروم" خلال الحرب العالمية الثانية، حين وجدت القوات البريطانية جثة متشرد قضى بسم الفئران، فألبسته ثياب ضابط وحمّلته مراسلات داخلية مفبركة للجيش البريطاني تتحدّث عن هجوم مقبل في اليونان وسردينيا، بينما كانت الخطة البريطانية مهاجمة صقلية؛ وهو الفخ الذي وقع فيه زعيم ألمانيا النازية أدولف هتلر، الذي بلغته الوثائق بعدما وجدت القوات الإسبانية جثة الضابط على شواطئها، إذ أعاد نشر قواته على حدود سردينيا واليونان، ما أسفر عن نصر سريع للحلفاء في صقلية.
وبينما لم تعلّق السلطات الروسية حتى اللحظة، بينما صرّح البنتاغون بأنه سيعمل على تحديد المسؤول عن التسريب، اتهم ثلاثة مسؤولين أميركيون موسكو بالمسؤولية عنه، وفق ما نقلت "رويترز".
وتحتوي الوثائق، بالفعل، على بعض التضليل الذي يمكن القول إنه مؤكد في هذه المرحلة، إذ يظهر أنّ جهة ما تعمّدت تعديل الأرقام في الوثائق الأصلية، بحيث تقلّل من الخسائر الروسية في القوات والمعدات مقابل مضاعفة الخسائر لدى نظيرتها الأوكرانية.
وتقدّر الوثيقة الأصلية عدد الخسائر في الأرواح لدى الجيش الروسي بين 34.5 آلاف جندي و43.5 آلاف جندي؛ وهو ضعف عدد الخسائر المقدّرة في الجيش الأوكراني، والتي تتراوح ما بين 16 ألفاً و17.5 آلاف جندي. رغم ذلك، يمكن القول إنّ هذه أوّل وثيقة رسمية مسجّلة تحصي الخسائر لدى القوات الأوكرانية، بعدما ظلّت سياسة كييف منذ بدء الحرب التكتّم على خسائرها.