شرق الفرات.. مواجهة أخرى أم قواعد جديدة للاشتباك..عريب الرنتاوي

الأربعاء 29 مارس 2023 01:07 م / بتوقيت القدس +2GMT



الحلقة الأخيرة (الراهنة)، في مسلسل التصعيد شرق الفرات، لا تنتمي إلى مسلسل «المناوشات» المعتادة بين القوات الأميركية والمليشيات المسلحة، المحسوبة في عمومها على إيران.. سياسياً وميدانياً، ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن وراء الأكمة قراراً سياسياً، إيرانياً أساساً، برفع منسوب المواجهة مع الوجود العسكري الأميركي في تلك المنطقة، وربما لهذا السبب، فضلاً عن سقوط قتيل وستة جرحى أميركيين، حظيت المواجهة الأخيرة باهتمام سياسي وإعلامي خاص في واشنطن.
هذه المرة، عدة موجات من الصواريخ استهدفت القواعد الأميركية، بالذات في حقلَي العُمَر وكونيكو النفطيين، صاحبها هجوم بطائرة مسيّرة ألحق خسائر بشرية في صفوف الأميركيين، الذين وجدوا أنفسهم في أمسّ الحاجة لشنّ سلسلة من الضربات الجوية، تخطت الحسكة لتطاول الميادين والبوكمال، ملحقة إصابات مباشرة بالجماعات المسلحة، ومتسببة في قتل 19 من أفراد المليشيات والجنود السوريين ومدنيين متعاقدين، وجرح عدد أكبر منهم.. بايدن الذي يزور كندا، قال: إن بلاده لا تسعى لصراع مع إيران، ولكنها مصممة على الدفاع عن جنودها.
إيران على ما يبدو تستشعر قدراً أعلى من «فائض القوة»، لا بسبب التطور المتسارع في حلفها الإستراتيجي مع روسيا والصين فحسب، بل وكنتيجة لانفتاحها المتسارع أيضاً على دول الخليج العربية، وبالذات بعد إعلان بكين الثلاثي، الأمر الذي ربما يكون قد أوحى لقيادتها أن الوقت قد حان لإخراج القوات الأميركية من سورية، ضمن إستراتيجية تستهدف إخراجها من «جنوب غربي آسيا»، وبالذات بعد الهجوم الأميركي الذي استهدف أحد أكبر رموزها، قاسم سليماني، في  كانون الثاني 2020.
وأحسب أن إيران ليست معنية بدورها بفتح جبهة صراع مفتوح مع الولايات المتحدة، لكنها مع ذلك ترى أن «تصعيداً مضبوطاً» قد يمكّنها من ضرب عصفورَين بحجر واحد: الأول إعادة مسار فيينا للمفاوضات حول برنامجها النووي إلى سكّته بعد خروجه عنها، كونه بوابتها للخروج من نفق العقوبات الاقتصادية المظلم.. والثاني تسخين الجدل داخل أروقة القرار الأميركي بشأن مستقبل الوجود العسكري الأميركي في سورية، لا سيما أن هذا الوجود لا يتمتع بقيمة إستراتيجية للولايات المتحدة، لكنه بالنسبة لإيران عنصر تهديد دائم لممرها الإستراتيجي الممتد من قزوين إلى شرق المتوسط. إيران لم تتلقَ بارتياح قرار الكونغرس، قبل بضعة أسابيع، بالإبقاء على هذه القوات في سورية.
وهي تُجري حساباتها المعقدة بهذا الشأن، لا شك أن طهران تأخذ بالحسبان أن واشنطن الغارقة في حربين كونيتين، واحدة ضد روسيا في أوكرانيا وثانية ضد الصين حول تايوان، لن تكون بوارد شنّ حرب ثالثة ضدها، وأن إدارة بايدن لا تمتلك في الشرق الأوسط الكبير برمته سوى إستراتيجية إطفاء الحرائق، ومنع الانفجارات التي تعكّر عليها صفو حربها لإحكام هيمنتها على «نظام القطب الواحد».
ولا شك أن طهران تتابع عن كثب، وربما بقدر أعلى من الاهتمام، تطورات الداخل الإسرائيلي، إنْ على ساحة الصراع الداخلي المحتدم وغير المسبوق، بين أجنحة الطبقة السياسية - الأمنية ومراكزها، أو على جبهة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وهي تدرك أن «غريمتها الأولى»، بوضعها الحالي، ربما تكون عاجزة عن القيام بمغامرة عسكرية ضد مواقعها ومنشآتها النووية، بخلاف ما يُشاع عن احتمال قيام نتنياهو بتصدير أزمته الداخلية بافتعال مواجهة مع إيران.
وثمة عامل آخر، مستجد، لا يقل أهمية في الحسابات الإيرانية، ويتعلق بموقف تركيا وموقعها من هذا النزاع المتصاعد على مقربة من حدودها، لا سيما أن أنقرة لم تُخفِ يوماً رغبتها في خروج القوات الأميركية، المظلة الواقية لخصومها الأكراد، من شمال شرقي سورية، وفي ضوء الرغبة التركية المستجدة للمصالحة مع دمشق، وبدء عمل «الآلية الرباعية» للتقارب التركي - السوري، برعاية روسية.
ورغم أنه من غير الواضح، حتى الآن، كيف سينعكس التقارب السوري - التركي على مستقبل الوجود الأميركي في سورية، إلا أن المؤكد أن ريحاً جديدة بدأت تهب على الصراع الإيراني - الأميركي فيها وحولها، وغالباً بغير ما تشتهي سفن واشنطن.