لم يمر أكثر من شهر واحد على تلاوة الشهيد الفلسطيني أمير عماد أبو خديجة (25 عاماً) بيان إطلاق "كتيبة طولكرم - الرد السريع"، وسط مدينة طولكرم شمالي الضفة الغربية، حتى اغتالته قوات الاحتلال الإسرائيلي، بعد محاصرتها منزلاً كان بداخله في قرية جنوب شرق طولكرم.
واغتالت قوات الاحتلال أبو خديجة، الخميس الماضي، بمنزل في عزبة شوفة، ونقل إلى مستشفى الشهيد ثابت ثابت مصاباً برصاص في الرأس أدى إلى تهتك كامل في الجمجمة وخروج للدماغ، وبرصاص في الأطراف السفلية، بحسب بيان مقتضب لوزارة الصحة الفلسطينية.
وقبل اغتياله، حاصرت قوات خاصة إسرائيلية (مستعربون)، بملابس مدنية، المنزل الذي كان فيه أبو خديجة، وقامت باغتياله بعدما اشتبك معها بالرصاص.
وأبو خديجة هو أول شهيد فلسطيني في شهر رمضان، وجاء استشهاده بعد أيام قليلة من قمة "شرم الشيخ" التي عقدت يوم 19 مارس/ آذار الجاري، في محاولة لـ"خفض التوتر" بالضفة، وشارك فيها مسؤولون سياسيون وأمنيون من مصر والسلطة الفلسطينية، وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، والأردن، والولايات المتحدة الأميركية، والذي أتى استكمالاً لاجتماع العقبة في الأردن الذي عقد في 26 فبراير/ شباط الماضي.
الأمير يختار دربه
ولد أمير عماد أبو خديجة في غزة، حيث كان والده يعمل في وزارة التنمية الاجتماعية، ليعود مع أسرته إلى طولكرم في الضفة الغربية عام 2008، ثم التحق في عمر الـ18 بحرس الرئيس، وبعد فصله من الجهاز، أكمل دراسته في كلية الرياضة بجامعة فلسطين التقنية "خضوري" في طولكرم، لكنه لم ينهِ متطلبات الدراسة بسبب مطاردته من الاحتلال الإسرائيلي.
وتوصف عائلة الشهيد بالمتعلمة والمثابرة، فوالده موظف عمومي بدرجة مدير في وزارة التنمية الاجتماعية، ووالدته المربية المتقاعدة أمل تخرّج على يديها الآلاف من أبناء طولكرم، لكن أمير اختار درب مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
تقول والدته أمل: "لم يكتب الله لابني أن يكمل مشواره في عمل أو دراسة، وكأنها رسالة من الله كي لا يتعلق قلبه بأمر دنيوي، فهو منذ طفولته مولع بأخبار المقاومين ويتبع جنازات الشهداء".
وأضافت قائلة "لم أكن أدرك أن وعيه بدأ يتشكل تجاه هذه القضايا، لا أنكر أنني ووالده حاولنا ثنيه عن هذه الطريق، لأننا كنّا نخاف عليه، فهو فلذة كبدنا، لكنه أصر على سلوك هذا النهج، فكان له ما أراد".
وتصف الأم نجلها بالشجاع وبكونه لا يخشى المواجهة، فكان بحسب ما أخبرها رفاقه بعد استشهاده مقداماً ويتصدر الصفوف خلال التصدي لقوات الاحتلال، التي اقتحمت منزل عائلته عدة مرات واعتدت على أشقائه، وهددت باغتياله إن لم يسلم نفسه. وعبرت والدة الشهيد عن أسفها لمحاولة الأجهزة الأمنية الفلسطينية اعتقاله، وطلبها من والده أن يسلمه لهم، قائلة إن رده كان "إذا كان ابني لا يريد أن يسلم نفسه، فكيف سأخونه أنا وأسلمه لأي جهة؟!".
المقاوم الصلب يختار الشهادة
كل المؤشرات التي رأت العائلة أنها بدت على أبو خديجة كانت تؤكد صدق نيته في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تقول والدته: "كنا ندعو له إن كانت نيته لله تعالى أن ينال ما يريد، صدق الله فصدقه الله، لقد استشهد صائماً، وقام الليل وتناول سحوره الأخير، وخلال الاشتباك معه كان يردد الشهادتين بأعلى صوته، كما أبلغنا الجيران الذين سمعوه".
أما والده عماد فأكد أنه لم يرَ ابنه أمير منذ ثلاثة أشهر بسبب مطاردة الاحتلال له، لكنه يشدد على أن أبو خديجة كان صاحب موقف ولا يتأخر عن إعلانه مهما كانت الظروف. ويقول الوالد: "لم يكن أمير يجامل في الحق، ولا يخاف في الله لومة لائم، لذلك عندما قاد المقاومة في طولكرم لم أستغرب ذلك".
يصف الأب لحظة استشهاد أمير مشتبكاً مع الاحتلال، ويقول: "كنت أتوقع استشهاده في كل لحظة؛ فالعقيدة التي تربى عليها تأبى الاستسلام، وكثيراً ما أخبرنا أنه عندما يُحاصر سيشتبك، ولن يستسلم أو يسلم نفسه، وأن أمنيته أن يلقى الله شهيداً".
عودة إلى الرد السريع
أسس أمير أبو خديجة مع عدد من رفاقه مجموعة عسكرية وتولى قيادتها، وقد أطلق عليها اسم "كتيبة الرد السريع"، تيمناً بالشهيد رائد الكرمي، قائد "كتائب شهداء الأقصى"، الذراع العسكرية لحركة "فتح" وأحد مؤسسيها في الضفة الغربية، مطلع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، الذي عُرف عنه سرعة الردّ بالعمليات المسلحة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
ونفذت "كتيبة الرد السريع" سلسلة عمليات إطلاق نار على المستوطنات والتجمعات العسكرية لجيش الاحتلال، وعلى التجمعات الاستيطانية في محيط طولكرم، لكن أبو خديجة اختار يوم الـ 22 من الشهر الماضي، ليعلن رسمياً عن انطلاق "كتيبة طولكرم – الرد السريع"، رداً على ارتكاب الاحتلال لمجزرة راح ضحيتها 11 شهيداً، من بينهم اثنان من قادة "عرين الأسود" في مدينة نابلس، ليلقى هذا الإعلان ترحيباً واسعاً، ويسارع مقاتلون من مختلف التنظيمات للانضمام إليها.
وأكدت مصادر رفضت الكشف عن هويتها، أن أمير أبو خديجة لم يكن يقاتل تحت راية فصيل بعينه، إذ كان انتماؤه يتجاوز المسميات الحزبية. ورغم أن كتيبته كانت تحمل شعار "كتائب شهداء الأقصى"، لكن صوراً له خرجت للعلن بعد استشهاده وهو يضع عصبة "كتائب القسام" الذراع العسكرية لحركة "حماس" على جبينه، ويلتقط الصور خلف رايتها الخضراء.
وفي وصيته التي نشرتها "كتيبة طولكرم" بعد استشهاده، أكد أمير أبو خديجة فيها نيته الجهاد والمقاومة والشهادة، داعياً إلى مقاومة الاحتلال ومساعدة المقاومين بالضفة الغربية.
أبو خديجة أحد أبرز مؤسسي المجموعة، والناطق باسمها، يجيد استخدام السلاح، الذي تدرب عليه خلال عمله القصير نسبياً في جهاز "حرس الرئاسة" المكلف بحماية الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل فصله منه. وذكرت مصادر خاصة لـ"العربي الجديد" أن الشهيد عرض قبل فصل من عمله على محكمة عسكرية فلسطينية بتهمة مخالفة القوانين، بعد اكتشاف علاقته بمجموعات تقاوم الاحتلال الإسرائيلي عام 2019.
وخلال ثلاثين يوماً، استطاع أبو خديجة التخفي عن الأنظار، ليس فقط عن أعين قوات الاحتلال الإسرائيلي التي كان تلاحقه منذ عدة أشهر حتى قبل الإعلان عن الكتيبة، بل عن الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي حاولت اعتقاله ولاحقت مجموعته العسكرية مراراً، وهو ما أثار موجة احتجاجات شعبية في طولكرم.
كان الشهيد أمير محبوباً بين الجميع، وله بصمة خاصة، وهذا ما أمكن تلمسه خلال جنازته التي كانت مهيبة وتليق بتضحياته رغم صغر سنه، وفق ما أكده الصحافي سامي الساعي من طولكرم.
وأضاف قائلاً "أمير اختار طريقاً ليس سهلاً، وملاحقته واستشهاده تركا أثراً لدى كثير من الشباب". أما منشوراته على حسابه في "فيسبوك" فتكشف عقيدته التي تؤمن فقط بمقاومة الاحتلال، ورفضه لسلوك السلطة الفلسطينية بملاحقة المقاومين.
العربي الجديد