النميمة، أو الاستغابة من الممارسات السلبية المنتشرة في عموم المجتمعات، أمرنا الله تعالى بالتوقف عنها بقوله: «ولا يغتب بعضكم بعضاً»، كما أوصى بذلك الأنبياء والمصلحون والوعاظ، واستنكرتها النظم الأخلاقية.. ومع ذلك لا يوجد إنسان تقريباً لم يمارس الغيبة يوماً ما، ربما بعضنا يمارسها على مدار الساعة، فتكون جزءاً من عاداته، وبعضنا يمارسها من حين إلى آخر.
النميمة كما وصفها صديقي معاوية «خصيصة بشرية»، فالقرود والقطط مثلاً لا تغتاب بعضها بعضاً، ربما لأنها لا تمتلك مهارة الكلام، وتقتصد بالقليل من قاموسها اللغوي (الفقير أصلاً) بما يمكنها من الاستمرارية في الحياة.. بينما الإنسان، ولكونه الكائن الوحيد الذي يمتلك خصيصة الكلام، طور قواميسه اللغوية ومهاراته الكلامية بما يفيض عن حاجته، وصار يخصص جزءاً كبيراً منها في النميمة.
ربما للنميمة أوجه أخرى غير التي تعتبرها نقيصة أخلاقية؛ فهي أحياناً تكون المنفس الوحيد لتفريغ الكبت الداخلي، وإخراج المشاعر السلبية تجاه من أساؤوا لنا، أو للتعبير عن آرائنا الحقيقية تجاه من نُجبر على مجاملتهم، فتكشف لنا بذلك معادن من يحيطون بنا، ومن نتعامل معهم ولا نعرفهم حق المعرفة، ولا نعرف شيئاً عن خباياهم وعوالمهم الداخلية، وهؤلاء يعرف حقيقتهم المقربون منهم، فيتحدثون عنهم في مجالسهم الخاصة، ولكن السر إذا خرج عن اثنين لا يعود سراً، وهكذا تُزال عن وجوههم تلك الأقنعة التي طالما خُدعنا بها.. وهذه قد تكون مفيدة لمعرفة الشخص الذي تقدم لخطبة ابنتك، أو الشخص الذي تقدم بطلب وظيفة عندك (إن كنت من أصحاب الأعمال)، أو من طلب منك مالاً لتقرضه، أو من منحته ثقتك، وأدخلته بيتك.
وقد تكون النميمة للتسلية، فمثلاً عندما كنا في السجن (أنا وصديقي أنيس)، وكان لدينا الكثير من وقت الفراغ، كانت النميمة مادتنا المفضلة للتسلية، فكنا نبدأ بالأصدقاء والمعارف وحسب ترتيب الأحرف الأبجدية، حتى نأتي على آخرهم قبيل النوم، مدحاً وذماً وانتقاداً.. ونعاود الكرة في اليوم التالي لمن نسيناه.
جميع الناس يغتابون بعضهم بعضاً، لن أقول هذا شيء جيد ومقبول، لكنها ممارسة تنسجم مع طبيعة المجتمعات البشرية، وتلبي شيئاً غامضاً داخل كل إنسان.. قد تكون مقبولة إلى حد ما، طالما أنها لا تضر بالآخرين، ولا تنال من سمعتهم.. على الأقل إذا ضغطتْ عليك نفسيتك ودفعتك للحديث عن شخص غائب، فكن صادقاً، وموضوعياً، وأميناً، وإذا سمعت الآخرين يتحدثون عن شخص ما فدافع عنه بقدر ما تستطيع، وما ترى فيه من صفات حسنة.. لأنك ستكون مادة حديثهم بمجرد أن تخرج من الغرفة، ستتمنى حينها وجود من يدافع عنك.
لكل منّا سلبيات ونقاط ضعف، والمشكلة أننا ننكرها، أو نتعامى عنها، وتصبح المشكلة أكبر حين نرى بوضوح سلبيات الآخرين ونقاط ضعفهم، فنقوم بتضخيمها، والحديث عنها.. وأحياناً نفرح عندما يقع غيرنا في الخطأ، ونبتهج عند فشل من ينافسنا، وننقب بكل فضول ونشاط عن أخطاء غيرنا، لعلنا نكتشفها، ونخرجها على الملأ.. وإذا لم نعثر على ما نبحث عنه نختلقه، أو نبالغ في تصويره، أو نسيء فهمه، ونحمله غير ما يحتمل.. وبالطبع هذه الممارسات السيئة تختلف وتتفاوت من شخص إلى آخر، ولكنها في العموم موجودة، وأكثر الفئات المستهدفة الناجحون والمتميزون والمنافسون لنا.. عندما نكتشف عيباً فيهم نعزي أنفسنا (سراً)، ونعوّض بذلك ما كان ينقصنا، ونبرر لأنفسنا فشلنا وعجزنا، فيخبرنا عقلنا الباطن (بخبث): «لست وحدك الفاشل، هذا أفشل منك»، لم تكن جباناً حينها، فذلك أجبن منك»، «نجح فلان فقط لأن لديه واسطة»، أو «لأنه من أسرة غنية»، أو «لأن الحظ حالفه».. قد يكون ذلك صحيحاً (الواسطة، الحظ، الثراء..)، لكن فشلك وخيباتك وعجزك وأخطاءك أنت المسؤول عنها، وسببها خياراتك، وطريقتك في التفكير.
إذا ارتكب أحدهم غلطة لها علاقة بقيم المجتمع (قد يكون الشخص بريئاً، وضحية لإشاعة مفبركة) سيتحول الجميع حينها إلى قديسين، وملائكة.. وفي الحقيقة أكثر «المزاودين» في هذه الحالة أولئك الذين يشعرون في داخلهم بالنقص، فيعوضون نقصهم بالهجوم على الضحية.
في الواقع، نحن نستسهل إصدار الأحكام على الآخرين، ونجلدهم، ونستمتع بذلك.. لأن ذلك يساعدنا في تغطية عيوبنا، ولأننا نريد تبرئة ذواتنا ممّا علق بها من آثام، ونرغب أن نرى أنفسنا بأجمل صورة، حتى لو كانت صورة زائفة!
وعادة ما ينال المشاهير القسط الأكبر من نميمة المجتمع، فإذا كان المشهور قائداً سياسياً وارتكب غلطة، أو تسربت عنه معلومة، حتى لو كانت إشاعة سيتسلى به الناس إلى أن تظهر فضيحة جديدة لقائد منافس.. وإذا كانت فنانة وأجرت عملية تجميل فاشلة، ستنال حصتها الوافرة من الغيبة والتنمر.. وإذا ارتدت ممثلة فستاناً قصيراً فستكون حديث الشارع لشهر على الأقل.. بعض النساء يتمنين في دواخلهن لو أن لديهن جرأتها، والكثير من الرجال يشتمونها علناً، ويستمتعون بصورتها سراً.
في مجتمعات المثقفين الصغيرة سنرى النميمة على أصولها، في اللقاءات المفتوحة، وفي العلن نسمع دوماً: أنت شاعر جهبذ، وهذا مسرحي عظيم، وذاك روائي كبير، وتلك فنانة مبدعة، وذلك كاتب قدير.. تلك مجاملات جيدة وأحياناً لا بد منها، ولكنها في الجلسات المغلقة تتحول إلى قدح وذم: فلان شِعره مبتذل، وعلان روايته تافهة، وذاك لغته مقعرة.. المشكلة أنه في كثير من الأحيان تكون تلك الآراء في الجلسات المغلقة صحيحة ودقيقة، وهذه إن كانت مفيدة في كشف ما نجهل، لكن الأجدى منها الشفافية والصراحة والنقد البناء، فالمواجهة أفضل من المجاملة، ومن الغيبة.
لا تعظِ الآخرين ولا نفسَك بعظةٍ فوق طاقة البشر، أي حين يكون معيارها الأخلاقي عالياً جداً، فيصبح الوصول إليها شبه مستحيل، ويرهق النفس، ويثقل عليها.. كن واقعياً وطبيعياً، فأنت إنسان، ومن سماتك الطبيعية الخطأ والنسيان والضعف والخوف، فلا تدّعي الملائكية، ولا تسعَ إليها.. والأهم لا «تزاود» على غيرك.