قصتي مع “حوارة” التي عشت فيها..

السبت 04 مارس 2023 02:56 م / بتوقيت القدس +2GMT
قصتي مع “حوارة” التي عشت فيها..



كتب نزار حسين راشد:

قبل الإحتلال سكنّا قرية حوّارة، مسترخية، وادعة وودودة، تستريح حقولها تحت سماء ساجية، وتبدو بساتينها كفسحات ترابية بين أشجار تتنافس على ملكية الأرض.
حالة وفاة مفاجئة أدخلت القرية كُلّها في الحزن والحداد، حتى المذياعات خفضوا أصواتها رغم حرصهم على متابعة الأخبار، فقد ساد الإعتقاد وقتها أن حرب التحرير التي سيشنّها ناصر أضحت وشيكة.

رحلنا عن حوارة بحكم انتقال عمل والدي، ولكننا لم ننساها أبداً، لم انس أقران الطفولة الذين لعبتُ معهم بين أشجار البساتين، احتلوا ركناً من ذاكرتي على شكل قائمة أسماء، حتى الوجوه احتفظتُ بصورها، جلال الأسمر وكنانة الأبيض، وشوقي المحتقن الأحمر!
حتى بعد أن بسط الإحتلال ظلاله الثقيلة، لم تُرق دماء، ولم تقتحم بيوت لسنوات طويلة قادمة، وانصرف الناس إلى شؤون عيشهم.
ثم كشف الإحتلال عن وجهه الآخر القبيح، وبدأت حركة الإستيطان، وتحول الإحتلال إلى إحلال، وبدأت الإنتفاضة الأولى وتبدّلت الأحوال، واختصرت المسافة بين قصبة نابلس المركز وببن قرى الأطراف، اختصرتها موجة الإنتفاضة الأولى التي انداح مدها ملغياً المسافات، وجامعاً النفوس وموحداً الوعي والضمائر حول هدف واحد: التحرير وطرد الإحتلال.
إلى أن جاء العام ١٩٩٣ ووقعت اتفاقية أوسلو، وظنّ الناس أن الفرج قريب، ولكن الألغام المخبأة ببن طيات الاتفاقية المسخ بدأت بالانفجار واحداً تلو الآخر، ووجدت فلسطين نفسها بمدنها وقراها ونجوعها أمام حرب وجود: نكون أو لا نكون.
ودخلت حوارة في المعمعة مع الداخلين، وحين أوجعت رصاصاتها المقاومة خاصرة العدو وأدمتها، لم يكتف العدو بالحصار ونسف البيوت والاعتقال، بل جاهر بنيّته بأنه يريد إحراقها ومحوها عن الخريطة.
كل تلك الكراهية التي يضمرها لهذا الوجود الجميل، غرر الأشجار التي تغيظه خضرتها، فيغريه شيطانه بإحراقها، ولكنها الحياة بكل إرادتها وإصرارها وأسرارها، وتلك الروح التي تنفّستُها يوماً من هواء حوارة، ولا يزال نفحها يخفق في رئتي، هي التي ستغلب سحب الدخان الأسود التي يطلقها عدو حاقد في فضاءاتها النقيّة العذراء.
ستستعيد السماء بهاءها والأرض يناعها، وستبقى حوارة خلية حية في نسيج حي، لن تهزمه أبداً قنابل الدخان ولا رصاصات الغدر، فالشعوب الحية لا تهزم ابداً يا سيدي وستبقى حوارة وأخواتها علامات شاخصة على طريق التحرير والحرية وأسماءً لن تمحى من على خارطة فلسطين ولو بعد حين وحين.
كاتب اردني