أين فصائل غزّة ممّا يحدث في الضفّة؟ عبد الباري عطوان

الأربعاء 01 مارس 2023 10:36 ص / بتوقيت القدس +2GMT
أين فصائل غزّة ممّا يحدث في الضفّة؟ عبد الباري عطوان



العمليّات الفدائيّة المُتسارعة التي يُنفّذها رجال المُقاومة في الضفّة الغربيّة المُحتلّة لم تقتل القمّة الأمنيّة الخُماسيّة التي انعقدت في مدينة العقبة الأردنيّة وقبل أن يجف حِبْرُ بيانها الختاميّ “التآمريّ” لوأدِ الانتِفاضة المُسلّحة، وفرض “التّهدئة” المجّانيّة فقط، وإنّما أثبتت أيضًا أن من يُقرّر مصير الشّعب الفِلسطيني ليس أولئك الذين هرولوا للمُشاركة فيها تنفيذًا لإملاءات “المُعلّم” الأمريكي “الكبير”، وإنّما دماءُ شُهداء وجرحى شباب كتائب العرين ونابلس وبلاطة وجنين طبعًا وأسراهم ومنازلهم المحروقة أيضًا، فالكلمة الأُولى والأخيرة لهؤلاء، ولعلّهم بتكثيف عمليّاتهم الفِدائيّة، والتصدّي للمُستوطنين الإرهابيين في نابلس وأريحا والقدس والخليل وجنين وقريبًا طولكرم، أرادوا أن يُغيّروا كُل المُعادلات على الأرض، السياسيّة منها والأمنيّة، ويشطبوا قِيادة رام الله وسُلطتها، تمامًا مثلما فعل نُظراؤهم المُقاومون الذين انبثقوا من وسط رماد هزيمة النّظام الرّسمي العربي في حرب حزيران (يونيو) عام 1967.
***
من المُفارقة أن قمّة العقبة الخُماسيّة لم تصمد قراراتها إلا بضع ساعات فقط، وحقّقت إنجازًا كبيرًا ليس بوقف الانفِجار، وفرض التّهدئة إنقاذًا لدولة الاحتِلال وحُكومتها الفاشيّة مثلما أرادت، وإنّما بتسريعها، وتشريعها للمُقاومة دون أن تقصد ومُضاعفة الدّعم والالتِفاف حولها، وفضح الإرهاب الاستِيطاني بالصّوت والصّورة، وإعادة القضيّة الفِلسطينيّة العادلة إلى قمّة اهتِمام الرّأيين العامّين العربي والعالمي.
فعندما يقول إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إن ما جرى التوصّل إليه من اتّفاقاتٍ في قمّة العقبة سيبقى فيها ولن يُغادرها، وعندما يُعلن إيلي كوهين وزير خارجيّة الاحتِلال أنّ عمليّات البناء، وإقامة المُستوطنات في الضفّة ستستمرّ بالوتيرة نفسها، ولن تتوقّف، فهذه صفعةٌ قويّةٌ مُهينةٌ ومُذلّةٌ، للمُشاركين العرب فيها (أيّ قمّة العقبة)، وإسقاط القِناع عن دورهم المشبوه في المُؤامرة، ولا نستثني أيّ أحد منهم، وخاصّةً حماسة بعضهم لتجنيد جيش من العُملاء وتدريبهم وتسليحهم لقتل أشقّائهم المُقاومين الشّرفاء حِمايةً للمُستوطنين وإرهابهم.
دِماءُ الشّهداء، ورصاص بنادقهم، وقنابل المولوتوف الحارقة التي حلّت محلّ الحجارة، وأصبحت تتصدّى لعربات الاحتِلال المُدرّعة وتُشعل النّيران فيها، وتعاظم تسابق الشّباب الوطني الغاضب على الشّهادة، كُلّها عوامل ضاغطة ومُرعبة، فكّت عُقدَة لِسان نيد برايس المُتحدّث باسم الخارجيّة الأمريكيّة ودفعته أن يُدين، ولأوّل مرّة، هجمات المُستوطنين الإرهابيّة في بلدة حوّارة، ومُطالبته حُكومة الاحتِلال ليس مُعاقبة الفاعِلين ومُحاكمتهم فقط، وإنّما أيضًا دفع تعويضات لأصحاب المنازل والسيّارات التي حرقوها وأشجار الزّيتون المُباركة التي اقتلعوها.
ربّما يُجادل البعض الذي يرفع رايات الاستِسلام تحت غِطاء الحكمة والتعقّل والاعتِدال بالقول إن هُناك فارقًا كبيرًا في موازين القِوى ولغير صالح الفِلسطينيين العُزّل، في ظِل انفِضاض دُول مُواجهة ومُساندة عربيّة كُبرى عن قضيّتهم وتوقيع بعضهم اتّفاقات سلامٍ مسموم، وهذا صحيح، ولكن هل كانت موازين القِوى لصالح نيلسون مانديلا وحزبه عندما حملوا راية المُقاومة ونزلوا إلى الميدان، أو لصالح تشارل ديغول في فرنسا عندما قرّر التصدّي للاحتِلال الغازي، أو جورج واشنطن في أمريكا، أو المهاتما غاندي في الهند، والقائمة تطول.
هذه المُقاومة التي نسفت قمّة العقبة، وستقبر حتمًا قمّة النّقب الثانية، وستحرق اتّفاقات سلام أبراهام بمُساعدة الشّعوب العربيّة، تستمدّ قوّتها ليس من عدد القتلة في صُفوف الإسرائيليين (عددهم 14 مُنذ بداية العام مُقابل 66 شهيدًا فِلسطينيًّا)، وإنّما من آثارها النفسيّة والمعنويّة على المُستوطنين في دولة الاحتِلال، وتعميقها لحالة الانقِسام في صُفوفهم، وحِرمانهم من الأمْن والاستِقرار والاطمِئنان على مُستقبل أبنائهم، وبِما يُؤدّي في نهاية المطاف إلى تدمير أُسس بقاء كيانهم وانهِيارِ مشروعهم.
***
نشعر بالحُزن والألم ونحن نُتابع الحرائق التي أشعلها الإرهابيّون المُستوطنون في منازل أهلنا بلدة حوّارة النابلسيّة وسيّاراتهم التي تفحّمت، خاصّةً في ظِل “العُقوق” العربي الرسمي الرّاهن والتّواطؤ الدّولي مع القتلة، ولكنّ الشّعوب المُؤمنة بالنّصر لا تهرب من أقدارها، ولا تستسلم لأعدائها، لأن الاستِسلام ليس من عقيدتها، والمُقاومة العُنوان الأبرز في إرثِها التاريخي.
أثناء “العُدوانات” الإسرائيليّة المُتكرّرة على قِطاع غزّة طِوال العقدين الماضيين، كان البعض يسأل أين الضفّة الغربيّة فيما يحدث في القِطاع؟ والآن ألا يحق للبعض الآخر أن يسأل أين غزّة وفصائلها ممّا يحدث في نابلس وجنين والقدس وحوّارة؟ وأين وحدة السّاحات؟ ولماذا يطول الصّمت؟ أفيدونا أفادكمُ الله.