هاجت الذكرى الخامسة والستون للوحدة بين مصر وسوريا في 22 فبراير 1958 أشجانَ المواطنين العرب في مختلف مستوياتهم وعيا بهذه الوحدة التي دهمها الانفصال في 28 سبتمبر 1961. ولدت في مستهل الربيع، ووئدت في الخريف. وتلتها محاولات وحدوية كثيرة طالها الإخفاق والزوال في باكورة عمرها. وعقدت وحدات بمسميات ومواصفات مختلفة روعي فيها الجوار الجغرافي والتشابه السياسي في أنظمة الحكم مثل مجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي إلا أنها كانت شكلية لا عمق لها، وسرعان ما ظهر التنافر اللابث تحت شكلها الخارجي. عيب على الوحدة المصرية _ السورية التسرع في عقدها استجابة للعواطف وتجاهلا للحقائق.
وفي هذا العيب حظ من الصواب وحظوظ من الخطأ. يسوغ الاستجابة للعواطف أنها كانت واقعا قبل الوحدة. كانت كل صنوف العلاقات الإنسانية والثقافية والاقتصادية والتجارية المصحوبة بتنقل مواطني البلدين بسهولة بينهما تجري في تيار لا يتوقف. كانت بين مصر والشام. وللشوام الدور الأول في تأسيس الصحف المصرية مثل ” الأهرام ” و مجلة ” الهلال “، ومؤسسات الطباعة والنشر مثل “دارالمعارف “، وقل هذا عن المسرح. وكان المواطنون من البلدين يستقرون في أي منهما، ثم يصيرون مواطنين في البلد الذي استقروا فيه. ومثلا، لا نكاد نجد عائلة في فلسطين ليس لها امتداد في مصر، والعكس صحيح. وظل الجنيه المصري العملة الرسمية في فلسطين حتى 1927، عام صدور الجنيه الفلسطيني. والشوام يسمون النقود ” مصاري “.
وبهذه الخلفية كان للبعد العاطفى في الوحدة المصرية _ السورية ما يسوغه. كان تعبيرا عن واقع قائم انقطع تياره الحركي المباشر مع اختلاق إسرائيل في 1948. وجاءت الوحدة بعد عشر سنوات من ذلك الاختلاق إعادة لوصل ما انقطع بسببه، وسعيا لإزالته. واختلاق إسرائيل استهدف فصل مشرق العالم العربي عن مغربه، وسارع بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل للقول فزعا من الوحدة: “صارت إسرائيل بين فكي كماشة”، ولأن الكيانات السياسية لا يكفي البعد العاطفي وحده مؤسسا لها، انهارت الوحدة المصرية _ السورية بعد ثلاث سنوات لفشل داخلي في إدارة العلاقة بين البلدين، وللتآمر عليها بين الغرب وإسرائيل والأنظمة العربية الملكية التي كانت توصف بالرجعية في تضاد مع الأنظمة الجمهورية القومية الوحدوية التي كانت توصف بالثورية. وفطن عبد الناصر إلى عجز البعد العاطفي وحده عن تأسيس دولة وحدة باقية بين مصر وسوريا إلا أنه استجاب لإلحاح الضباط السوريين المطالبين بها رغبة فيها، وخوفا من التهديدات التركية لسوريا، وكانت تلك التهديدات معززة من الغرب بقيادة أميركا التي اتهمت سوريا بالتوجه نحو الشيوعية بعد تعيين العقيد عفيف البزري ذي الميول السوفيتية قائدا عاما للجيش السوري. وسبق الوحدة إرسال عبد الناصر قوات مصرية لمعاونة سوريا في الصمود لتلك التهديدات التي حشدت أثناءها تركيا بدءا من 18 أغسطس 1957 آلاف الجنود على الحدود مع سوريا، وأكثر طيرانها من اختراق الأجواء السورية.
ولم تصمد الوحدة بسبب ضعفها التنظيمي الداخلي، وكثرة أعدائها الخارجيين وقوتهم. واحتفظت مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة الذي اتخذ اسما رسميا لتلك الوحدة حتى ألغي في عهد السادات، واستبدل به اسمها الحالي. يردد دعاة وحدة العرب أننا من أكثر شعوب العالم تجانسا ووفرة مقومات لهذه الوحدة، وأظهر هذه المقومات اللغة والدين والتاريخ والتراث والجغرافيا، والعرق إلى درجة هامة. وهذا واقع مشهود، واذهب إلى أي بلد عربي، فستشعر كأنك لم تغادر بلدك، وأن الاختلافات قليلة جدا، وفي السطحيات لا في الأساسيات. وتحدث مع أي مواطن في أي شأن عربي فتدهش للتطابق بينكما في الرأي والتطلعات.
وعشت شخصيا هذه التجربة الحميمة العظيمة في خمس دول عربية، وكثيرا ما حمدت الله _ عز اسمه _ أن وطني العربي بهذه السعة الرحيبة التي لا استشعر الغربة في آمادها المتقاصية. ولا أنسى ما حدث معى أنا وأخ مصري جمعت بيني وبينه حافلة السفر عبر 600.كيلو متر نزلنا في طرابلس الغرب، ورحنا نبحث عن فندق، وكلما ذهبنا إلى واحد أنبئنا أنه لا مكان فيه لمبيتنا. وانتهينا إلى أحدها وقد أطبق اليأس على روحينا وبدنينا المنهكين، واستقبلنا شاب وسيم بسيم، وأجلسنا، وأخبرنا أن اسمه شكري، وأنه مدير الفندق، واعتذر لنا من عدم وجود مكان، وطمأننا بأنه سيتصل بصديق له في فندق آخر يقدر أنه سيوفر لنا مبيتا في فندقه، وهو ما كان، وقبل أن نودعه قال: “أتمنى أن يأتي يوم لا ينزل فيه مواطن عربي في فندق، ينزل في بيت أي مواطن عربي في البلد الذي يزوره !”.
كم كنت عربيا عظيما يا شكري! وأعداؤنا يعلمون كثرة مقومات وحدتنا وقوتها، ويدرسونها في كل مستوياتها، ويخشون خطرها على أهدافهم في العالم العربي والعالم الإسلامي. هنري بنرمان رئيس وزراء بريطانيا قال في المؤتمر الاستعماري الذي انعقد طوال عامي 1905 _1907 إن المواطن العربي يغادر موريتانيا حتى الكويت، فلا يجد إلا من يخاطبهم بلغته بينما يحتاج المواطن الأوروبي إلى ترجمان إذا انتقل من بلد أوروبي إلى آخر. وقبل الحرب العالمية الثانية هاتف مسئول إيطالي في ليبيا صديقا بريطانيا له في إدارة الانتداب في فلسطين، وقال : ” ما أعجب العرب ! يقول أحدهم عندنا في ليبيا : لا إله إلا الله، فيكمل واحد عندكم في فلسطين : محمد رسول الله. “. أحسنَ التعبيرَ عن متانة التواشج بين العرب إحسانا يقصر بعضنا عنه. و
لخشية أعداء العرب من وحدتهم فإنهم وقفوا دائما وما زالوا يقفون معترضين سبيلها، وإسرائيل هائلة الخشية لها، وتعدها الفاصل بين حياتها وموتها، وصداً لها تحرض العرقيات غير العربية على الانفصال. وانضفرت أكثر الأنظمة العربية في عصبة الأعداء، فحاربت الوحدة، ورسخت جذور الإقليمية باسم الوطنية، وتسارع الانحدار، فغابت الوحدة الوطنية في دول عربية كثيرة، وصارت ضحلة الوجود في الدول القليلة الباقية. حتى الفلسطينيون أقوى دعاة الوحدة العربية القومية أملا منهم في أن تعينهم على تحرير وطنهم ؛ انقسموا وغابت وحدتهم الوطنية. ولا أمل في وحدة عربية قومية إلا بظهور قادة عرب وطنيين قوميين قادرين على بناء الوحدة الوطنية، ومدركين لعظم ضرورة الوحدة القومية، ولا يستبقون أنظمتهم بالتبعية الكاملة لأعداء العرب. الوحدة موجودة بين المواطنين العرب، وشهدنا قوتها في نفور هؤلاء المواطنين من الإعلاميين الإسرائيليين، واحتضانهم للرموز الفلسطينية، وسرورهم بتغلب فريق بلاد الحرمين على الفريق الأرجنتيني، وفوز الفريق المغربي بالمركز الرابع في ختام المونديال.
كاتب فلسطيني