لم يعد بإمكان أبناء الأسير الفلسطيني أحمد بدر أبو علي (48 عاما)، من بلدة يطا جنوب الخليل جنوب الضفة الغربية، احتضان والدهم حياً، فبعد سنوات من الانتظار والفقد والألم من الطرفين، استشهد الأسير في العاشر من فبراير/شباط الجاري قبل أن يفرج عنه بعام ونصف، إثر تدهور حالته الصحية في سجن النقب الصحراوي، لمعاناته من مرض القلب، وسط إهمال طبي تديره إدارة سجون الاحتلال الإسرائيلي بشكل بطيء.
في حالة من العزاء والأسى يروي مراد نجل الشهيد لـ"العربي الجديد"، عن لحظات تلقّيهم خبر ارتقاء والده شهيدا في سجون الاحتلال، قائلًا: "كانت صدمة كبيرة، لم نصدق إلى الآن ما حصل"، ويضيف: "ما زاد همّي وكمدي أن الاحتلال حرمني من زيارة أبي، وكان التواصل معه صعباً نتيجة ظروف الاعتقال، وكان يعدنا بتعويض أيام الأسر".
والشهيد الأسير أحمد أبو علي من بين شهداء الحركة الأسيرة الذين ارتفعوا بعد استشهاد أبو علي إلى 235 شهيدا، منذ عام 1967، منهم (75) نتيجة لجريمة الإهمال الطبي (القتل البطيء)، كما أن هناك العشرات من الأسرى المحررين استشهدوا نتيجة لأمراض ورثوها من السجون.
مطاردة واعتقال
قبل حوالي 17 عاماً، باع أحمد بدر أبو علي أرضاً يملكها، ليشتري مقابلها سلاحاً ويشرع في تنفيذ عملية إطلاق نار تجاه حافلات إسرائيلية عام 2006، تعرّض بعدها للمطاردة، وتمكن الاحتلال من اعتقاله عام 2012، ليواجه 90 يوما من التحقيق في الزنازين، ثم يصدر بحقه حكم بالسجن 12 عاما، أمضى منها أكثر من عشر سنوات حين استشهاده، وفق ما يؤكده الأسير المحرر أحمد أبو علي، رفيق الشهيد أحمد أبو علي أيضاً، والذي يحمل الاسم نفسه، والقرابة العائلية، وكذلك القضية عينها في المعتقلات الإسرائيلية، ولم يفرقهما سوى الإفراج المبكر عن أحدهما.
يقول قريبه وصديقه : "تعرّضنا للمطاردة عام 2006 سوياً، اعتقلت أنا، وبقي الشهيد حينها مطاردا لمدة 5 سنوات، لاحقا حصل على عفوٍ من الاحتلال يقضي بعدم اعتقاله، لكن تم اعتقاله عام 2012 والحكم عليه 12 عاما".
إهمال طبي قاتل
قبل سنوات، بدأ أحمد يواجه الأمراض التي تكبر في جسده، فقد كان مصابا بأمراض مزمنة كالضغط والسكري، ونتيجة منع الاحتلال لأبسط أنواع الأدوية عنه، تفاقم وضعه الصحي حتى أصيب بالسمنة وأمراض القلب، ما استدعى إجراء 4 عمليات في القلب له خلال أشهر قليلة، العام الماضي.
ويقول الأسير المحرر أحمد أبو علي رفيق الشهيد: "قبل حوالي سنة، نقل الاحتلال الشهيد إلى مستشفى سوروكا بالداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وأجريت له عملية قسطرة قلبية، لكنه تُرك عرضة للإهمال الطبي، وعاد ليكرر العملية بعد أسبوعين، وبعدها بشهرين تبيّن أن العمليات لا فائدة منها".
يضيف المحرر أبو علي، "لقد أجريت للشهيد عملية (شبكية قلبية) وبدأت صحته تتدهور أكثر فأكثر حتى أصيب بماء على الرئة، وهي مرحلة مرضية تستوجب عناية طبية يومية، وهذا ما رفض الاحتلال أن يقدمه للشهيد، حتى باتت حركته بطيئة، وصحّته تتراجع للوراء".
كان الشهيد أبو علي يحتاج يوميا إبرة أنسولين (علاج مرض السكري) مرة في الصباح وأخرى في المساء، لكن الاحتلال كان يسمح له بجرعة واحدة ويحرمه الثانية في سبيل القتل البطيء له، حتى صار يعاني لاحقًا من السمنة التي أرهقت أقدامه، فأعاقت حركته بشكل كبير، وطاولته أمراض القلب، وغادر الحياة شهيدا أسيرا، لكنه لم يخرج حتى اللحظة من حياة الأسر، إذ يحتجز الاحتلال جثمانه، وشرّحت شرطة الاحتلال، أمس الأحد، جثمانه دون إبلاغ العائلة بموعد التشريح، ودون أن تنتظر الطلب الذي تقدم به محامي الشهيد لـ"محكمة الصلح" الإسرائيلية في بئر السبع.
العشاء الأخير
ليلة استشهاده، جمّع أبو علي الأسرى في ساحة سجن النقب (الفورة)، وعزمهم على كعك وعصير، وتبادلوا وقتها أطراف الحديث بشكل طبيعي، كما يروى عن لحظات الشهيد الأخيرة، نقلًا عن رفاقه في الأسر.
في حدود الساعة العاشرة من مساء الخميس، قام الشهيد أبو علي ليحضّر وجبة عشاء لإخوانه في الغرفة، وبعدها اطمأن على جميع الأسرى أنهم تناولوا طعام العشاء، ثم جلس ليرتاح على (البرش) أي سرير النوم، وإذ بيده تتدلى وينقطع لسانه عن الكلام. حاول الأسرى فحص نسبة الأكسجين في دمه عبر جهازٍ صغير، فكان الأكسجين في دمه قد انقطع، وصار الأسرى يكبّرون ويدقّون الأبواب لتحضر إدارة السجن التي تأخرت 20 دقيقة حتى كان حينها مفارقًا الحياة.
رحل أبو علي لكن الأسرى لن ينسوه، حيث يؤكد رفيقه، الأسير المحرر أبو علي، "أنه حتى في السجن كان حريصا على أن يزيل الهمّ عن قلوب الأسرى، ويتقن الدحية الفلسطينية، ويغنّيها يوميا للأسرى في سبيل الترفيه عنهم، كما أنه كريمٌ يحب إطعام الأسرى وتحضير الطعام لهم يوميا".
الوعد الذي لم يكتمل
خلال فترة سجنه تعرّض الشهيد أبو علي لمواقف صعبة، فقد حرم من والده، الذي توفي ولم يتمكن من وداعه، ولم يبقَ لأهله معيل، فقد كان والده يعيل ثماني أخوات له، وتزامنا مع ذلك حاصرته الأمراض.
ليس هذا فحسب، فقد حرم الاحتلال مراد ابن الشهيد أحمد أبو علي من زيارته، حيث يؤكد مراد لـ"العربي الجديد"، أن ما زاد صعوبة فترة الأسر على والده، هو منعه كونه الابن الأكبر من زيارته منذ عامين.
يقول مراد: "لقد حرمني الاحتلال من زيارة أبي، وكان التواصل معه صعبا نتيجة ظروف الأسر، كان يعدنا بتعويض أيام الأسر، وأن يخرج من السجن قريبا ليبني لي منزلًا ويزوجني، واليوم يفارقنا. ولم أعرف أبي عن قرب، فكنت أعرفه من خلال الصور فقط".
كان الشهيد أبو علي يعد فلذات كبده بتعويضهم سنوات الحرمان، حسب ما يؤكد رفيقه الأسير المحرر أحمد أبو علي، مضيفا "أن الشهيد كان يحدّث من حوله عن نيّته تعويض أبنائه عن سنوات الأسر التي قضاها بعيدا عنهم، لكنه استشهد قبل تحقيق أمنيته".