بعد اقل من 15 دقيقة من إعلان القيادة الاسرائيلية قيام دولة اسرائيل فوق ارض فلسطين بتاريخ 14 ايار/مايو من العام 1948، اصدر الرئيس الامريكي هاري ترومان تعليماته بالاعتراف بهذه الدولة. تنفيذاً كما ادعى في حينه لقرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة، بتاريخ 29 تشرين الثاني/اكتوبر من العام 1947. ومع اقتراب موعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، تصدرت واشنطن المشهد لرعاية وحشها الصغير وبدأت تغذيته بكل وسائل القوة والرعاية، ليس اقلها إنشاء جسراً جوياً من الاسلحة والمعدات العسكرية واللوجستية اللازمة لاحتلال ما تبقى من اراضي فلسطين التاريخية عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وأجزاء من الاراضي العربية على فترات متلاحقة. وواصلت واشنطن ممارسة سياسة التعتيم على امتلاك إسرائيل الاسلحة النووية، ووفرت لها حصانة تمنع إخضاع منشآتها للتفتيش من قبل اللجان الدولية المختصة. وتعهدت إداراتها المتتالية بإستمرار تزويدها بكل انواع الاسلحة الحديثة لضمان تفوقه النوعي على دول الاقليم مجتمعةً.
ومع انطلاق عملية السلام التي اعقبت الانتفاضة الاولى من العام 1987، ووصول الطرفين الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال الى صيغة توقيع الاتفاق النهائي القائم على مبدأ حل الدولتين ضمن فترة زمنية حددها الاتفاق وملحقاته، حرصت واشنطن على إظهار هذا الحدث وكأنه من صنع يديها، وأصرت على ان يكون التوقيع في حديقة البيت الابيض بتاريخ 13 ايلول/ سيبتمبر 1993. ومنذ ذلك التاريخ تواصل واشنطن إدعائها الحرص على ضرورة التوصل لحل الدولتين، لكنها بالمقابل لم تمارس أي ضغط على الطرف المُعطل لبنود اتفاقيات اوسلو، وهنا حكومات إسرائيل المتعاقبة. بل وعلى العكس من ذلك، إعتادت الادارات الامريكية المتعاقبة على سياسة الضغط الاقصى على الجانب الذي تعتقد أنه الاضعف في هذه المعادلة، وهو السلطة الوطنية الفلسطينية.
وواصلت واشنطن لعبتها المزدوجة في إدارة الصراع، فمنذ العام 2000 – وهو الموعد المفترض فيه الانتهاء من المفاوضات حول قضايا الوضع النهائي، وإعلان قيام دولة فلسطين الى جانب دولة إسرائيل، ورغم صول عملية السلام الى طريق مسدود بفعل التعنت الاسرائيلي، كما هو المشهد اليوم، وإندلاع الانتفاضة الثانية /انتفاضة الاقصى، عقب اقتحام رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك ارئيل شارون لساحات المسجد الاقصى بتاريخ 28 ايلول /سيبتمبر 2000. إلا أن واشنطن لم تقدم خطة سياسية او خارطة طريق حقيقية تلامس الحد الادنى لبنود الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، وكانت جميع مبادراتها لدفع عملية السلام تعكس موقفها المنحاز لاسرائيل، بل وفرت غطاءً كاملاً لسياسات إسرائيل العدوانية. في الوقت نفسه، واصلت حكومات الاحتلال اللاحقة، وتحت نظر الادارات الامريكية الديموقراطية والجمهورية، إبتلاع المزيد من الارض الفلسطينية: تُصادر، تُشيد وتُوسع مستوطناتها على الارض والتي من المفترض ان تكون اراضي الدولة الفلسطينية المنشودة، حتى بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية قرابة مليون مستوطن، وفقاً لتقرير معهد الابحاث التطبيقية الفلسطيني بتاريخ 22تموز/ يوليو2022، واحتلت المستوطنات الاسرائيلية ما مساحته 6% من اراضي الضفة الغربية.
من ناحية أخرى، استمرت “راعية السلام” واشنطن في حماية حليفتها على الساحة الدولية، ووفرت لها قبة حديدية داخل أروقة الجمعية العامة ومجلس الامن الدوليين، ومنحتها القوة في التمرد على جميع القرارت الدولية. فمنذ العام 1973 حتى العام 2018 إستخدمت واشنطن حق النقض الفيتو 46 مرة، واصدر الكونجرس الامريكي اكثر من 12 تشريعاً لصالح إسرائيل، بما فيها إعتماد القدس عاصمة موحدة لاسرائيل ونقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس- كان ذلك في تشرين الثاني/نوفمبر1995. ومع الدعم المالي الثابت الذي يصل الى 3.3 مليار دولار سنوياً، أخذ وحشها ينمو ويلتهم مالا يطيق هضمه. وبدأ يضرب بعرض الحائط حتى الطلبات الامريكية ويقايضها بمصالحه، ووصل الى مستوى أن نتنياهو تجاوز الرئيس باراك اوباما عام 2017 والقى خطاباً في الكونجرس الامريكي دون إشعار البيت الابيض. ومع ذلك، تستمر واشنطن في سياسات فرض التطبيع مع إسرائيل، الى جانب إظهار إلتزاماً حديدياً مُنقطع النظير بما تسميه أمن إسرائيل “الواحة الديموقراطية الفريدة والوحيدة في الشرق الاوسط”. والتي تشاطرها “نفس القيم والمبادئ الليبرالية والتاريخ والمستقبل المشترك”.
وما إن تولت الحكومة اليمينية المتطرفة برئاسة نتنياهو مقاليد الحكم في إسرائيل- يؤكد التحالف الحكومي الجديد على ما يسميه الحقوق اليهودية “الحصرية” على كل الأرض الفلسطينية، بعبارة أخرى، إنهاء أي فكرة عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة في المستقبل. حتى بدأ وزرائها المتطرفون من امثال بن غفير وسموترش بتصعيد خطابهم السياسي المسموم، وعلى خطى شارون، إختار بن غفير أن يكون اول ظهور علني له في المنصب ليتجول في ساحات المسجد الاقصى، وتصاعدت جرائم التحالف المتطرف لتطال الدم الفلسطيني في كل مكان. ودون خطوط حمراء، إرتفعت مستويات تهديداتهم لتصل الى القيادة الفلسطينية، وهو ما صدر عن ما يسمى رئيس مجلس المستوطنات في شمال الضفة الغربية يوسي داغان، بقوله: أن الرئيس محمود عباس يحاول إشعال موجة من “الارهاب” ويجب على حكومة الاحتلال معاملته “كمخرب”. وهي دعوة صريحة لاغتيال الرئيس الفلسطيني ابو مازن، وتدمير البنية التحتية للسلطة الفلسطينية وإجتثاثها بالكامل.
وفي خطوة بدت للوهلة الاولى هادفة لضبط الوحش المنفلت من عقاله، سارع وليام بيرنز – مدير المخابرات الامريكية، بلقاء الرئيس محمود عباس. لكن المسؤول الامريكي الكبير لم يكن يحمل في جعبته أي جديد، بإستثناء مطالبة الضحية بعدم الصراخ والحفاظ على هدوئها وهي تُذبح، ويدعو القيادة الفلسطينية للسيطرة على ما وصفه “أعمال عدائية ضد إسرائيل”، الى جانب طلباً غريباً تمثل في دعوة الرئيس ابو مازن لحضور “مؤتمر النقب2” المرتبط بسلسلة إتفاقيات “ابراهيم”، كحلقة في سلسلة تطبيق بنود صفقة القرن المشؤومة التي صاغها ترامب ورفضتها القيادة الفلسطينية. وفي سياق تبادل الادوار، أعقبت زيارة بيرنز، جولة لزميله وزير الخارجية انتوني بلينكن، والذي جدد خلال لقاءه برئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو على ارض القدس، حرص واشنطن على دعم إسرائيل وضمان أمنها. بالمقابل حرص رئيس الدبلوماسية الامريكية على تكرار ما إعتاد سادة البيت الابيض قوله منذ العام 1994، وهو مصطلح الحرص على (حل الدولتين) خلال لقاءه بالرئيس محمود عباس في رام الله، لكن المسؤول الكبير لم يكشف لنا كيف سيكون شكل حل الدولتين الذي بدا غارقاً أمام عينيَّ رئيسه خلال زيارته الاخيرة لمدينة بيت لحم، وماذا بقي منه على الارض، خاصةً بعد تصريحاته الاخيرة بأنه “لا ينبغي لاحد ان يتوقع ان تمارس واشنطن أي ضغط على إسرائيل”. وأن الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني ليس أولوية على اجندة الرئيس بايدن على الاقل خلال هذا العام.
جوهر الموقف الامريكي يتمثل في أن واشنطن تدعم حل الدولتين، ولكن على الورق وفي التصريحات فقط. وفي الواقع، تطلق يد حكومة إسرائيل لإغراق هذه المفهوم تمهيداً لإخراجه تدريجياً عن الاجندة العالمية. ويبدو أن واشنطن وجدت في تشكيلة الحكومة المتطرفة الحالية – رغم بعض التصريحات الخجولة، فرصة مواتية لانهاء الوضع الذي افرزته إتفاقيات اوسلو بشكل كامل. ويظهر أن البيت الابيض يسابق الزمن المتبقي له من هيمنة ونفوذ إمبريالي على المسرح الدولي، قبل إنحساره وصعود قوى واطراف عالمية ساعية لتشكيل نظام عالمي جديد بعيداً عن القطبية الاحادية الامريكية، مُمثلةً بكل من بكين وموسكو. لتثبيت وقائع جديدة على الارض بعيداً عن إتفاقيات اوسلو وغيرها. وبالتالي ضمان الحفاظ على إسرائيل كحاملة طائرات متقدمة لمواجهة نفوذ خصوم واشنطن في منطقة الشرق الاوسط.
من المؤكد ان اولائك الذين تولوا أطعام الوحش قد بدؤو يعانون من عسر الهضم، وبات مبعوث السلام كمن يخيط بالابرة من ثقب ضيق، مع إنعدام هامش المناورة ووسائل الضغط او يكاد. وزيارته التي بدأت “بلحظة محورية” يبدو انها ستنتهي بدون وضوح في الرؤيا حول كيفية التعامل مع “اللحظة المحورية” التي تحدث عنها زعيم الدبلوماسية الامريكية. ليبقى السؤال التالي: هل تتشابه ممارسات بن غفير ونتنياهو بممارسات سلفهم شارون، وبالتالي ستندلع إنتفاضة ثالثة جديدة؟ أو ان الواقع يقول أن الانتفاضة فعلاً قد بدأت؟. خاصة بعد أن اظهر استطلاع رأي ان ما نسبته 61% من الفلسطينيين و65% من الاسرائيليين يرون أن بوادر انتفاضة جديدة باتت تلوح في الافق.
باحث في العلاقات الدولية
مدير وحدة الدراسات الدولية – معهد فلسطين لابحاث الامن القومي
زميل ابحاث ما بعد الدكتوراة مدرسة العلاقات الدولية SOIS
جامعة اوتارا ماليزيا University Utara Malaysia UUM