في أحيان كثيرة عندما أشعر برغبة في الكتابة أو يفيض دافع ما لتفريغ فكرة بهيئة نص أو جسد من كلمات أشعر بالحيرة الكبيرة في قيمة ما يمكن أن يُكتَب أو أهمية فكرة ما في زمان عَزّ فيه القراء والباحثون على الماء في هذه الصحاري الشاسعة، في أحيان أخرى تكون نوعية الكتابة والمحتوى مصدرا آخر للحيرة في الانتقاء من بستان الكلمات وحدائق الفكر على شتى صوره ومسمياته، في أحيان أخرى تصاب النفس واليد بنوع غريب من فوبيا الكتابة واليأس من رسالة الكلمات، في أوقات مغايرة أكاد أتفق مع نفسي على التوقف عن الكتابة واستسلامي امام عزوف القارىء العربي عن الاهتمام بأي نص أو فكرة وبلادة تفاعله مع مقال أو كلمات تحاول إيصال شيء، ثم في بعديات تالية أتراجع عن هذا القرار الصغير والشعور بالذنب لتوقف نشر الرسالة.
في زوايا الحياة المختلفة ومنعطفاتها تكمن الصور والأحداث والتي تحكي الأفكار وتشرح الكثير لمن يتقن قراءة مدلالوت هذه الصور والأحداث وما تحكيه جهرا وخفية، ما الذي يدفع كاتب عربي ما لكي يكتب ؟ هل تسوقه الأحداث وتضع في فكره ما يجب أن يكتب؟ هل هو الألم الذي يعتصر قلبه مما يرى ويعايش من أحداث ومواقف وسقطات تزلزل القلب ؟ هل هي محاولة للثأر برصاص الكلمات ؟ هل الدافع هو حفنة من الفضيلة المتوهجة الباقية بعدما أطفئت ريح الهزيمة المستمرة كل مشاعلنا؟ لا شك أن لدينا مفكرة سميكة الصفحات اسمها مفكرة الألم العربي بكل فصوله الكثيرة ومواقيته الموسمية ولدينا كذلك مفكرة أخرى أرق سمكا اسمها مفكرة الأمل التي تحمل من حياتنا وتجاربنا وتجارب غيرنا عناصر العزيمة والجمال وديمومة الحياة والمكونات السرية لخلطة البقاء والاستمرار والصعود ووصفات أخرى من بلسم الجراح والشفاء.
من يتجول في شوارع الآلام العربية كل يوم وكل حدث داخل المفكرة الأولى يستطيع أن يكتب رسائل ومقالات لا تقف عند حدود، أعترف بأنني أكاد أصاب بالإرباك أمام هذه الأفكار وفيض المعاني الذي تحمله، عن ماذا أكتب ؟ عن آلام المواطنين العرب الذين نلتقيهم في شوارع الحزن وممرات الأخبار من عاصمة الضاد حتى عاصمة الهلاك وعيونهم التي تشي بانكسارهم ونزيفهم المستمر ؟ عن أولئك المعدمين الذين تتم سرقتهم كل يوم والضحك على عقولهم وحياتهم وأعمارهم واستنزاف كل رصيد في جداول حياتهم ؟ هذه هي الهزيمة العربية الحقيقية، عن ماذا أكتب ؟ عن قصة الخيانة الكبرى و وكلاء اسرائيل المزروعين منذ عشرات السنين من مغرب العرب حتى مشرقه ؟ عن الجحيم الذي يعيشه المواطن الفلسطيني و اليمني والسوري والليبي والعراقي واللبناني ؟ عن ماذا أكتب وعم أتكلم ؟ هل أتكلم عن استعبادنا وخداعنا حتى العظم ؟ هل أتكلم عن الشباب الذي أراه كل يوم وهو يسير إلى حتفه لاهيا تافها عابثا ؟ هل أتكلم عن الصحافة والإعلام والفضائيات و الجامعات التي تمارس التجهيل والتعتيم وخداع الأجيال ومراودة العقل عن نفسه خدمة للمشروع الصهيوني الأكبر ؟ هل أتكلم عن الهندسة العقلية التي حولت المثقفين إلى اداوت ترويض وتبعية وانهدام ؟ هل أكتب عن الهجمة التي تأتينا من فوق ومن تحت ومن اليمين والشمال ؟
عن ماذا أكتب حقا ؟ هل أتكلم عن الناس التي فقدت عقلها من شــدة العوز والفقر والتحطيم الاجتماعي أم عن تلك العائلات التي تنعم في الذهب وتضحك على النوع الأول ؟ هل أتكلم عن مؤامرة كبرى ستبتلع بلاد العرب بأكملها هذه المرة وتحولنا إلى عبيد في مملكة بني اسرائيل الملعونين في الأرض والسماء ؟ هل نكتب عن إثم السودان المسحوق ؟ ما الذي يقترفه السودان ؟ هل تحول النيل الأزرق والأبيض إلى خطين في علم ( اسرائيل ) ؟ من يقف خلف ذلك وعلى من الدور التالي ؟
عما نكتب أيها الزمان الحائر ؟ عن عواصم الضلال والمعصية ومخلوقات شقوق الأرض التي تتسيد حياتنا البائسة ؟
هل نكتب عما لم يشاهده السندباد في آخر حكاياته ورحلاته نحو الشرق والغرب ؟ هل نكتب عن جزيرة السعادين التي وصفها ثم أفلتت من صفحات كتابه العتيق وملأت عواصمنا بذوي الفكوك المتدلية وأصبحوا يقفون خلف الميكروفونات ويحللون ويحرمون ويشرِعون ما يحلو وفقا لإملاءات سيد السعادين ؟
كم نحن غرباء عن غربتنا وبعداء عن بعدنا وضائعون حيث نحن في أماكننا ! تخيلوا أن قضية فلسطين أصبحت اليوم بين يدي القمل والضفادع والجراد وهذه هي التي تقرر هل يبقى الحصان والأسد في القفص ام نقتل كليهما ؟……… تخيلوا أن عاصمة من التاريخ تتلقى تعليماتها من صندوق صدقات الربا المبلل بالكاز ؟….. تخيلوا أن عاصمة مثل بغداد العظيمة التي أذلت الغزاة تحكمها كائنات من ديدان الأرض وردية الجلـــد معراة البشرة وترسم لها حياتها ومصيرها….. تخيلوا أن دمشق الخالدة تعرض بالمزاد العلني أمام حشد من الكالحين الذين كانوا يتمنون تقبيل قدميها قبل تاريخ…..تخيلوا أن اليمن وشعب اليمن العظيم تسومه المساعدات وتهدده المجاعات، تخيلوا أن خيرة العرب تحولوا إلى متسولين وشحاذين وصارت أكبر الانتصارات العربية حج السبت والسلام على بني اسرائيل والتهليل لدعاة الكفر والإلحــاد والردة عن الأمــة.
حجم الجريمة بحق المواطن العربي كبير جدا، حجم الجريمة بحق المثقف العربي والمفكر العربي أكبر مما تستوعبه صفحات الكتب، حجم الجريمة بحق المرأة العربية والأسرة العربية أعمق من تاريخ كل العرب، حجم الجريمة بحق البلاد والأوطان لا تستوعبها عيون التاريخ، حجم الجريمة بحق الطفل والشاب العربي أكبر من أكبر رقم قياسي سجلته صحف الهراء.
ما نواجهه اليوم هو الاستبداد الأقصى في ذروة تغوله التاريخي، وما نواجهه الان هو أكبر مرحلة من فرض الاستعباد والتطويع باستخدام كل وسائل التركيع والتطويع من الإقناع بأدوات الدين والتهديد بالجوع إلى كسر الإرادة والضرب بالقوة المفرطة.
على الرغم من عبء وثقل مفكرة الألم وفداحة الخسائر وقسوة الاختيارات إلا انني سأحدثكم مرة أخرى من مفكرة الأمل، الأمل المعقود باليد الصالحة وذات الفكرة، الأمل الذي يطل به أبطال فلسطين وشهب النار التي يرسلونها لتضيء ظلمات حياتنا، الأمل الذي نقرؤه في كتابات وكلمات ووجه عبد الباري عطوان وأمثاله وكل طبقة المثقفين الذين يشغلون حيزنا الروحي، الأمل بالرجل العربي الصالح والمرأة الصالحة والشاب الصالح المتبقي من بعد كل هذا الرماد، سأكلمكم عن الثقة بالله وعزيمة الايمان التي لا تفتر أمام عظم المؤامرة ومكر التدبير، سأحدثكم عن شمعات مضيئة متناثرة هنا وهناك وبعيدا بين حقول الخراب والحصار وبقايا الحصيدة التي داستها المجنزرات، هذه الشمعات الصغيرة المتوقدة هي رجالنا الصالحون وسيداتنا الصامدات في كل مكان، هذه الشمعات هي الاجتهاد والعمل والعلم والمبادرة الحسنة والتمسك بكل جزئية من رسالة محمد والثبات أمام الهجمات والتسلح بالقراءة الواعية العقلية تسبقها الوجدانية.
رهاننا اليوم يقع على ثوابتنا التي ما تزال تحفظها قلة قليلة، تلك الفئة التي تحفظ العهد جيدا في قلبها وروحها وتنتظر اللحظة المناسبة بصمت وألم، أما ثوابتنا فهي التي تحملها هويتنا العربية و الاسلامية وكل شموليتها الفكرية وسعتها التسامحية… رهاننا على الحب الكبير لفلسطين وكل أوطاننا التي نخاف عليها من القسمة أو الدمج كغنائم لأطماع الصهاينة الجدد ومن والاهم وخدمهم….. رهاننا على كرامتنا وخوفنا من أن يحكمنا أبناء القردة والخنازير وعصاباتهم الجديدة التي كفرت بالله والوجودية والإنسانية وآمنت بعقيدة الشيطان والخراب…….رهاننا على أيدينا وما نكتب وما نصنع وما نزرع وما نربي عليه أبناءنا من قيم الحياة الصحيحة والعيش الصحيح بكرامة واجتهاد ونفع، إنه الرهان الوحيد المتبقي بعد هذه السنوات العجاف التي لا نعرف ما ستنجب وما ستأتي به لكننا سنعلن اننا على العهد باقون مهما إمتلأت مفكرة الألم !
كاتب عربي