هجوم على العالم المتحضر؟! محمد ياغي

الجمعة 03 فبراير 2023 02:55 م / بتوقيت القدس +2GMT



لم يجد الرئيس بايدن كلمات لإدانة العملية العسكرية التي حدثت في حي النبي يعقوب غير وصفها بأنها «هجوم على العالم المتحضر».
نعلم أن الرجل سيقوم بإدانة أي عمل فلسطيني مقاوم أياً كان فهو من قال: «لو لم تكن هنالك دولة إسرائيل لكان علينا خلقها» وهو من قال عندما كان «سيناتور»: «أنا صهيوني وليس عليك أن تكون يهودياً حتى تكون صهيونياً».
الرجل لا يخفي انحيازه الأيديولوجي لإسرائيل ولا يخفي المصلحة الأميركية من وراء دعمها لها رغم كل حديثة «الممجوج» عن أهمية حل الدولتين وبالطبع ليس من أجل إنصاف الفلسطينيين، ولكن لأن ذلك «يحافظ عليها كدولة يهودية خالصة».
لكن أن يقول الرجل إن العملية العسكرية هي «هجوم على العالم المتحضر» فهذا آخر شيء يمكن توقعه.
ربما يكون للعُمر تأثير هنا على قدرته على اختيار الكلمات ربما لأنه اضطر إلى الارتجال دون أن يكون أمامه شيء مكتوب من الآخرين الذين يدركون أهمية انتقاء العبارات بحيث لا يبدو رئيسهم كشخص أحمق فاقد للقدرة على وصف سياسات بلاده بدقة.
لكن حتى «الحماقة» في مثل هذه الحالات تكشف العقلية «العنصرية» التي يتمتع بها بعض القادة الغربيين والتي يحاولون إخفاءها في بياناتهم أو خطبهم الرسمية المكتوبة والتي عادة ما يجري تغليفها بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير واحترام القانون الدولي.
دعونا نتحدث قليلاً عن «التحضر» في أميركا، هذا البلد الذي يدعي قيادته «للعالم الحر» ورئيسه يرى الفلسطينيين «متخلفين» ويدعم بكامل ثقله الدولة التي تحتلهم منذ أكثر من خمسة عقود حتى لا ينجحوا في تحقيق حلمهم بالحرية والكرامة والعيش الآمن على أرض آبائهم وأجدادهم.
في العام الماضي كان هنالك في الولايات المتحدة 617 حادث إطلاق نار جماعي (جماعي بمعنى على عدد من الناس مكون من أربعة أشخاص أو أكثر)، وفي نفس العام قتل أكثر من 44 ألف أميركي في حوادث إطلاق نار مختلفة أكثر من نصفها «انتحار».
لا أعرف لماذا انتحر أكثر من 24 ألف شخص في دولة «متحضرة» اللهم إلا إذا كان هؤلاء لا يشعرون بنعمة «الحضارة» التي يتحدث عنها رئيسهم.
وفي نفس العام ابتاع الأميركيون 11 مليون قطعة سلاح ليتجاوز عدد الأسلحة في أيدي الأميركيين الـ 400 مليون قطعة وهو ما يفوق عدد سكان دولتهم. نتساءل هنا عما يدفع الأميركيين للسعي لامتلاك هذا القدر من السلاح لو لم يكن الدافع هو انعدام الأمن في دولة الرئيس «المتحضرة».
وبعد أكثر من مائة وخمسين عاما على الحرب الأهلية في أميركا التي راح ضحيتها أكثر من نصف مليون أميركي ويتم الادعاء بأنها قامت بتحرير الأميركيين من أصول أفريقية، لا يزال هؤلاء يُقتلون في الشوارع بطريقة عنصرية فاضحة على أيدي شرطة بلادهم.
هل شاهد الرئيس «المتحضر» الفيديو الذي يكشف كيف قتل خمسة من عناصر شرطة بلاده بوحشية قبل أسبوع تاير نيكولاس لأن بشرته سوداء؟
هل يمكن وصف دولة «بالتحضر» تخصص 130 بليون دولار من موازنتها لوزارة الصحة بينما تخصص أكثر من 700 بليون دولار سنويا لوزارة دفاعها؟ هذه الدولة التي لا تهتم لقيمة الإنسان لديها هل يمكنها ادعاء التحضر؟ مئات الملايين من البشر شاهدوا كيف كانت تلقى جثث ضحايا الكوفيد في الشاحنات لعدم وجود أماكن لها في المستشفيات الأميركية.
خارجيا، مارست الدولة «المتحضرة» التي يترأسها بايدن أبشع الجرائم في التاريخ الإنساني على الإطلاق ابتداء من قتل ملايين السكان الأصليين لأميركا، مروراً بإلقاء القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان، إلى حصار وتدمير العراق وقتل أكثر من نصف مليون إنسان فيه، إلى تقديم الدعم اللامحدود لكل الأنظمة القمعية التي تحالفت معها في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية خلال سنوات الحرب الباردة.
الرئيس الذي وصف العملية العسكرية في حي النبي يعقوب في بيت حنينا الفلسطينية بأنها «هجوم على العالم المتحضر» يتجاهل أربعة حقائق على الأقل:
الأولى أن التعديل الثاني في الدستور الأميركي والذي يجيز للأميركيين حمل السلاح كان سببه إعطاء الأميركيين الحق بالتخلص من حكومتهم بالقوة المسلحة إذا اضطروا لذلك بسبب طغيانها. بالمثل، أو لا يحق لشعب تحت الاحتلال استخدام السلاح لدحر احتلال فشل المجتمع الدولي في إنهائه بسبب انحياز أميركا لإسرائيل.   
الثانية أن عملية بيت حنينا العسكرية منسجمة مع القانون الدولي الذي يجيز وفق قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 43/37 والصادر في 3 كانون الأول من العام 1982 استخدام العمل المسلح لإنهاء الاحتلال.  
القرار يقول بالنص: وأكد القرار مجدداً «شرعية نضال الشعوب من أجل الاستقلال وسلامة أراضيها ووحدتها الوطنية والتحرر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح».
مستوطنة النبي يعقوب هي جزء من أراضي بيت حنينا التي احتلتها إسرائيل العام 1967 وهي بالتالي جزء من الأراضي التي يقاتل الفلسطينيون لاستعادتها والتي يقر المجتمع الدولي بأنها أراضٍ محتلة.
الثالثة أن العصابات اليهودية مثل الأرغون والهاغاناه وشتيرن هي التي خاضت ما تسمية اليوم إسرائيلحرب الاستقلال وهي لم تكتفِ بقتل الفلسطينيين وتشريدهم من أرضهم ولكنها قامت أيضا بقتل البريطانيين الذين رعوا هذه المنظمات عندما تم إنشاؤها. هل العمل المسلح «حلال» للعصابات المجرمة التي أسست دولة بقرار من الأمم المتحدة لكنه «حرام» على الفلسطينيين؟!
الرابعة أن بلاده تدعم دولة حكومتها فاشية بعض وزرائها يدعو علنا إلى قتل الفلسطينيين وتهجيرهم فيما يقول رئيسها علنا إنه سيضم أجزاء واسعة من الضفة ولن يسمح أبداً بقيام دولة فلسطينية.
الرئيس بايدن لا يمكنه الحديث عن «التحضر» ناهيك عن ادعاء تمثيل «العالم المتحضر». أكثر ما يمكنه أن يقول إن بلاده تقف خلف دولة الاحتلال أياً كانت سياساتها وأيا كانت جرائمها وأنه لا يكترث فعليا لا بالشعب الفلسطيني ولا بالشعوب العربية ولا حتى بالشعب الأوكراني الذي يقوم بضخ أسلحة لحكومته قيمتها عشرات المليارات من الدولارات، لا من أجل تحرره ولكن من أجل استنزاف روسيا حتى تبقى دولته متربعة على عرش الهيمنة العالمية.