فضح استشهاد الأسير ناصر أبو حميد الطبيعة الإجرامية لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، من خلال قرار احتجاز جثمانه، إذ يثير هذا الأمر الاستغراب وعدداً من التساؤلات حول الهدف الإسرائيلي من القيام باحتجاز جثامين الشهداء الأسرى.
بالبحث عن الأسباب التي قد تدفع الاحتلال إلى سرقة جثامين الشهداء، نجد مجموعة من التفسيرات، أكثرها ترجيحاً، بحسب تقارير إعلامية وآراء متخصصين، سببان:
- "معاقبة" الأسير وعائلته بعد استشهاده
انطلاقاً من المنطق الإنساني السليم، يمكن اعتقال الإنسان و"معاقبته" إنّ كان حياً فقط، لكن هل تعرف "إسرائيل" طريق المنطق؟
منذ احتلال "إسرائيل" للأراضي الفلسطينية، اتبعت سياسة ممنهجة تعتمد على احتجاز جثامين الأسرى الذين يقضون في سجونها، أو الذين يستشهدون خلال عمليات اعتداء ضد الفلسطينيين. وأنتجت هذه السياسة ما بات يُعرف باسم "مقابر الأرقام" التي تضم رفات الشهداء، بدون أسمائهم. بحسب صحيفة "يسرائيل هيوم" الإسرائيلية فإنّ "إسرائيل بناءً على قرار مجلس الوزراء تحتفظ بالجثث لغرض إعادة الأسرى والمفقودين الإسرائيليين"، بعد أن صدر قرار من وزير "الأمن"، بيني غانتس، بحجز جثمان الشهيد أبو حميد.
سُمّيت المقابر التي تضم رفات هؤلاء الشهداء بـ "مقابر الأرقام"؛ لأنها تتخذ الأرقام بديلاً من أسماء الشهداء. وهي عبارة عن مدافن بسيطة، محاطة بحجارة من دون شواهد، وفوق كل قبر لوحة معدنية مثبتة تحملُ رقماً معيناً. ولكل رقم ملف خاص تحتفظ به الجهة الأمنية المسؤولة، ويشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد.
وكشفت المعلومات عن 4 مواقع لهذه المقابر، فيما لا يعرف إن كان يوجد غيرها، وهي:
1- مقبرة الأرقام المجاورة لجسر "بنات يعقوب"، وتقع في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الفلسطينية-السورية-اللبنانية.
2 - مقبرة الأرقام الواقعة في المنطقة العسكرية المغلقة بين مدينة أريحا وجسر داميه في غور الأردن.
3 - مقبرة "ريفيديم"، وتقع أيضاً في غور الأردن.
4 - مقبرة "شحيطة"، وتقع في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبريا.
ويُعد احتجاز جثامين الشهداء وعدم الكشف عن أماكن المفقودين منهم مخالفةً لـ"معاهدة لاهاي 1907" المتعلقة بقوانين الحروب وأعرافها.
كما يُعد مخالفة لـ"اتفاقية جنيف الأولى" في المادة 17 منها، التي تُلزم الدولة المحتلة بتسليم جثامين الشهداء لذويهم ودفنهم وفقاً لمعتقداتهم الدينية.
- سرقة أعضاء الشهداء
على مدى عقود، رفضت "تل أبيب" الكشف عن مصير الجثامين التي بحوزتها. وبحسب
في 18 نيسان/أبريل عام 2022، فإن الاحتلال يستغل جثامين الشهداء "كبنوك بشرية للأعضاء".وكانت "إسرائيل" زَعَمت في وقتٍ سابق أن هذه السياسة قد انتهت منذ التسعينيات، ومع ذلك لا يزال الحديث عنها يتجدد، كلما تحفَّظَت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على جثامين الشهداء، وامتنعت عن تسليمها لذويهم.
ولفت تقرير الوزارة الفلسطينية إلى أنه خلال السنوات الماضية نُشر عدد من الصور لشهداء تم الاحتفاظ بجثامينهم في ثلاجات الموتى لدى الاحتلال لفتراتٍ متفاوتة، وبعد تسليم تلك الجثامين لذوي الشهداء "اتضح أنها تفتقد بعض الأعضاء، وظهرت عليها خيطات جراحية توحي بأنه قد تم شقها لاستئصال أعضاء".
وفي 4 تموز/يوليو 2022، أشار رئيس الحكومة الفلسطينية محمد أشتيه، أن لدى الحكومة "معلومات مؤكدة تثبت أن بعض كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية تقوم بسرقة جثامين الشهداء الفلسطينيين واستخدامها، من دون معرفة مصيرهم".
محاولة "إسرائيل" تشريع احتجازها للجثامين
تسعى "إسرائيل"، في السنوات الأخيرة، لإضفاء صبغة قانونية تتيح لجنودها القيام بانتهاكات بحق الشهداء الفلسطينيين، من خلال إيجاد مسوغات "قانونية" تجيز احتجاز جثامين الشهداء وسرقة أعضائهم.
ففي عام 2019، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً يتيح للحاكم العسكري احتجاز جثامين الشهداء ودفنهم مؤقتاً.
وأواخر عام 2021، تبنى وزير الأمن، بيني غانتس، سياسة عدم تسليم جثامين منفذي العمليات، ليقوم الكنيست بسن تشريع يخول الشرطة و"الجيش" الاحتفاظ برفات الشهداء الفلسطينيين.
أدلة وشهادات
أثارت صحيفة "افتونبلاديت" السويدية في 17 آب/أغسطس 2009، غضب "إسرائيل" بعد أن قامت بنشر مقالة تعتمد على معلومات الصحافي دونالد بوستروم الذي قام برحلاتٍ صحافية نشر إثرها كتابه "إن شاء الله".
وكان بوستروم شهد خلال رحلته مشهد قتل شاب فلسطيني مطلوب، يبلغ 19 عاماً، في قرية إيماتين-الضفة الغربية، وسارع الاحتلال حينها إلى نقل الجثة إلى مكانٍ بعيد.
لكن النقطة الأهم أن بوستروم رأى كيف تم فتح الجثة من المعدة حتى الذقن وخياطتها بشكلٍ يشبه ندبة تشريح الجثة، التقط حينها بوستروم صوراً للجثة،ونشرت الصحيفة صورة كأصغر دليل على كلامها.
اتهمت "إسرائيل" حينها الصحيفة السويدية بـ "معاداة السامية"، بحسب صحيفة "Times of Israel" الإسرائيلية.
ونشرت القناة الإسرائيلية الثانية مقابلة مع الطبيب يهودا هيس، الرئيس السابق لمعهد أبو كبير للطب الشرعي، الواقع بالقرب من "تل أبيب"، أجرتها معه نانسي شيبر هيوز، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا-بيركلي، والتي أجرت دراسة مفصلة عن معهد "أبو كبير".
وكشف هيس خلال المقابلة أنه "في أبو كبير قاموا بالفعل بسرقة جلود وقرنيات وصمامات القلب والعظام في التسعينيات من جثامين الفلسطينيين والعمال الأجانب". وتمت تلك العمليات في كثير من الأحيان "من دون أي إفصاح رسمي أو إذن من الأقارب وذوي الموتى باختلاف جنسياتهم".
ونقلت القناة الثانية الإسرائيلية حينها تأكيد "الجيش" الإسرائيلي تورطه بالفعل في تلك الممارسات. لكن حكومة "إسرائيل" زَعَمت أن "مثل تلك الأنشطة توقف قبل عقد الألفيات ولم تعد تتكرر"، وفقاً لشبكة "CNN".
وشرح هيس كيف لجأ الأطباء العاملون في المعهد "لإزالة القرنيات من الجثث التي استغلوها كبنوك أعضاء بشرية، ومن بينها جثامين الأسرى الفلسطينيين".
وقال، وفقاً لموقع "NBC NEWS": "كنا نضطر إلى إغلاق جفون الجثامين بالغراء، وذلك لكي لا يتم افتضاح السرقة"، مضيفاً "لم نكن نأخذ القرنيات من العائلات التي عرفنا أنها ستفتح جفون الموتى".
يُذكر أن هيس فُصل من منصبه بعد كشفه عن هذا الكم من التفاصيل في المقابلة. ومع ذلك، أسقط المدعي العام الإسرائيلي التهم الجنائية ضد الطبيب، إذ واصل هيس عمله ككبير اختصاصيي علم الأمراض في المعهد قبل أن يتقاعد لاحقاً من العمل الطبي.
وفي 14 آذار/مارس 2014، بثت القناة العاشرة الإسرائيلية تحقيقاً تلفزيونياً قالت فيه مديرة بنك الجلد الإسرائيلي، ملكا شآروت إنّ "احتياطي إسرائيل من الجلد البشري وصل إلى 170 متراً مربعاً في ذلك الوقت".
لكن، ما يثير الشكوك في كلامها كان تصريحها بأن نسبة التبرع بالأعضاء نظراً لعدد المستوطنين الإسرائيليين "قليلةٌ جداً"، في وقتٍ كانت قد قالت إنّ "بنك الجلد الإسرائيلي هو الأكبر في العالم".
كما نشرت الصحيفة الإسرائيلية "هآرتس" مقالاً يشير إلى أن "إسرائيل محور تجارة الأعضاء في العالم طوال العقد الماضي".
فكيف يمكن لبنك تبرع بالأعضاء أن يكون "الأكبر"، ومحور تجار الأعضاء في العالم، بينما نسبة التبرع فيه ضعيفة جداً!
الخبيرة الإسرائيلية في علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا مئيرا فايس، أجابت عن هذا التساؤل في كتابها "على جثثهم الميتة"، الذي أصدرته عام 2014، وقالت إنه في فترة ما بين 1996 و 2002 عملت في معهد أبو كبير لإجراء بحث علمي، وهناك رأت كيف تتم سرقة الأعضاء، لا سيما من الأسرى الفلسطينيين.
خبيرة إسرائيلية تكشف أساليب سرقة الأعضاء من الشهداء الفلسطينيين
وقالت فايس إنّه "خلال وجودي في المعهد، شاهدت كيف كانوا يأخذون أعضاء من أجساد الفلسطينيين، ولا يأخذون في المقابل من الجنود الإسرائيليين، بل إنّهم لا يمسون جثة الجندي الإسرائيلي".
ولفتت إلى أن "الأطباء الإسرائيليين كانوا يلجأون إلى وضع قشور بلاستيكية بدلاً من القرنية لكي لا تنكشف العملية لاحقاً، كما كانوا يستأصلون الجلود من الضحايا من منطقة الظهر بحيث لا تعرف عائلة الضحية بالأمر عند استلامها الجثمان". وهذا ما جعل الأمر غير قابل للملاحظة إلا من المتخصصين في مجال الطب والتشريح.
كما تشترط "إسرائيل" على أهالي الشهداء بعد تسليمهم الجثمان عدم تشريحه ودفنه مباشرةً، أو تعمد إلى تسليم الجثمان في ساعات الليل المتأخرة وتشترط وجود عدد معين من الأشخاص.
وبالإشارة إلى كل الدلائل التي وردت وفق أقوال وشهادات المتخصصين وحتى المشاركين في هذه الجريمة فإنّ "إسرائيل" لا تحتجز جثامين الأسرى لاستعمالها كـ "ورقة تفاوضية" أو لـ"معاقبة" الشهداء، إنّما لسرقة أعضائهم، لتعود وتدفن رفات الشهداء في "مقابر الأرقام". تلك البعيدة عن الأعين وكاميرات التصوير.