كيف ننجو من التعلق؟ سما حسن

الخميس 08 ديسمبر 2022 01:15 م / بتوقيت القدس +2GMT



لفرط ما فقدنا وتحسّرنا ونزفَت قلوبنا ونحن نسترجع ذكريات مَن رحلوا، فجأة تهب ريح الغياب، ورغم أنهم لا يغيبون ويتركون في القلب غصة وندبة، فإن تلك الريح غالباً ما تكون موجعة، لا تشبه ريح يوسف التي هبت على يعقوب فاستبشر، لأن من غابوا ليسوا كيوسف بالتأكيد، فغياب يوسف كان مؤقتاً، أما الغائبون خاصتنا ولشدة وجعنا غابوا بلا رجعة وبلا أدنى بصيص من أمل في أن يعودوا.
كثيراً ما أصد أولادي وأمنعهم عن الإسراف في الضحك في جلساتنا العائلية وكأني أتحسب ليوم تغيب فيه ضحكتي مثلاً، وكأني أتذكر كيف غاب وجه أمي وضحكتها التي كانت تفترّ عن ناب سقط دون أن تفكر بتركيب آخر صناعي مكانه، ولكن ضحكتها كانت رائعة تشد القلب وتمسح فوق جرح الروح، وغاب أبي ولشدة دهشتي فأبي فقد الناب نفسه وفي الموضع نفسه، وكنت أرى غيابه حين يعض على فكيه بقوة، مؤكداً على موقف أو مصراً على حكمة.
جلست وحيدة أتذكر غياب الضحكتين، وأسترجع في ذاكرتي بكل صدق وبلا خيانة بصرية أو سمعية كل ما مرّ بي من ذكريات لأحبتي الراحلين، وجدتُ أننا كنا نجتمع كثيراً ونحرص على اللقاءات والزيارات، ونشد المصور من بيته ليعلق كاميرته العتيقة في رقبته ويهرع نحو بيتنا فيلتقط لنا الصور المفردة والجماعية، وحين تطورت الحياة وأصبحت مساحة التكنولوجيا تتسع فيها أصبح لدينا كاميرا خاصة بتصوير الفيديوهات، وهي تُحمل على الكتف وتلف وتسجل الصوت والصورة، وصرنا نوثّق أحداثاً كلها سعيدة ومبهجة، إن كانت أعراساً أو لقاءات غائبين عادوا من بلاد الغربة مع هداياهم ودراهمهم في صيف قائظ.
اليوم صار الوجع أكبر بحجم الغياب والفقد، لذلك أزجر أولادي حين يسرفون بالتقاط الصور، وجمع التسجيلات والفيديوهات، أصبح قلبي ملتاعاً وأنا أرى فقد الأحبة من حولي، أرى لوعة أمهات الشهداء، أراهُنَّ وهن يرفعن الصور ويشرن إلى المتعلقات، ويحتضنَّ رائحة الثياب، أرى وأتألم وأهمس لنفسي لماذا نفعل ذلك بمن نحب؟ لماذا حين نرحل لا نأخذ معنا رائحتنا وكل ما يخصنا، وكل ما يربطنا لكي نخفف من وجع أحبتنا؟
قديماً قالوا إن الموت يوجع الأحياء، فالميت حين يرحل يغلق عينيه وينام ولا نعلم شيئاً عن عالَمه الجديد او رحلته القادمة او محطته التي انتقل اليها وكل هذه الألغاز والعوالم الخفية، لكننا نرى شقيقة شهيد تكتب ونتوجع ونلمس وجعها، ونقرأ كل يوم حروفها وهي تعاهده الا تتوقف عن الكتابة، وهي فعلاً لن تتوقف عن بث لوعة الفقد إلينا والى كل من يسمعها والى نفسها اولاً وأخيراً، فهناك جذوة نار تشتعل حين تهب ريح الذكريات في عيد ديني او مناسبة وطنية او حفل عائلي او أي حراك او مناسبة، هناك ريح موجِعة ليتهم صحبوها، ليتهم امتصّوها وتجرعوها قبل ان نتجرعها قطرةً وراء قطرة.
إننا حين نواسي الثكالى والفاقدين فنحن نطلب لهم الصبر والسلوان ونختار عبارة عقيمة للعزاء ونصمت، وليتنا نختار عبارة أعمق وأصدق وأن نقول مثلاً: ليت راحلكم لم يترك ذكريات كثيرة، ليته لم يمتلك زجاجةَ عطر قاربت ان تفرغ أو مشطاً مازالت شعراته تعلق به، أو أنه لم يترك زوجة او حبيبة او طفلة وليدة كلما نظرتم نحو وجهها عصفت بكم رياح الحزن أكبر.
الغياب المؤلم هو الذكريات، ولو أننا نحرص على ألا نترك ذكرياتنا نحو أحبتنا فنحن بذلك نسرف في حبهم، علينا أن نتأكد أن أحبتنا سوف يتعذبون مثلما تعذبنا حين رحل أحبتنا، وكأن الحياة التي تسلم الطريق لواحد بعد الآخر تصمم ان تجرع كل مستلم جديد كأساً مراً يبتلعه ثم يمضي حتى يحين الأجل، وأي أجل مر بعد مرارة الفقد؟ وأي عمر سيمر بعدهم وبدونهم، أنت نفسك لا تدري؟؟