المغامرة التركية الجديدة في سورية..عبد المجيد سويلم

الإثنين 28 نوفمبر 2022 10:14 ص / بتوقيت القدس +2GMT
المغامرة التركية الجديدة في سورية..عبد المجيد سويلم



لم يكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان «حُرّاً» كما هو اليوم في الذهاب إلى عملية عسكرية برّية في الشمال السوري.
حدود المغامرة في هذه العملية ستكون محكومة بحدود العملية العسكرية نفسها، وسيكون لتجاوز بعض هذه الحدود عواقب وخيمة على العملية نفسها، وعلى وضع الرئيس التركي السياسي والانتخابي على حدٍّ سواء.
الأرجح أن الرئيس أردوغان بات يعرف، منذ مسلسل «استدارته» الأخيرة، وبسبب حاجة كل الأطراف إليه في ضوء نشوب واستمرار الحرب في أوكرانيا، وما ولّدته هذه الحرب من أزماتٍ متلاحقة، مثل الطاقة، والأسمدة والحبوب، وأزمات في النقل البحري.. بات يعرف أن أحداً من كل هذه الأطراف لا ولن يستطيع «ثنيه» عن القيام بهذه العملية العسكرية، بعد أن «أكّدت» تركيا على مسؤولية «حزب العمال» عن تفجيرات إسطنبول، ووعدت بالردّ الكبير عليها.
الولايات المتحدة تجد نفسها في وضعٍ حرج للغاية، بل تبدو وكأنها وقعت في مصيدةٍ كبيرة.
فهي إن «تخلّت» عن الأكراد ــ وهذا الفعل الشائن ليس غريباً عليها فستفقد ليس «مصداقيتها» فقط، وإنما ــ وهذا هو الأهمّ ــ ستفقد كل مبررات وجودها في تلك المنطقة الغنية بالنفط، وهو الأمر الذي سيجبر القيادات الكردية السورية على «عقد» تحالف سياسي وعسكري مع دمشق، والذي سيؤدي ــ في حالة حصوله ــ إلى إعادة خلط الأوراق في هذه المنطقة «الحسّاسة» من الشمال السوري، وخصوصاً لجهة إعادة ومعاودة النشاط العسكري لـ «داعش» بأبعاد جديدة، وخطيرة.
والولايات المتحدة إن هي وقفت «بحزم» ضد تركيا في هذه العملية فإنها تغامر بخلق مشاكل لها في إطار «حلف الناتو» هي ليست بحاجة لها، بل هي آخر ما ترغب في الوصول إليه.
وحتى لو أن الأمور لن تصل إلى هذا المستوى من «الخطورة» على «حلف الناتو»، أو تماسكه الشامل فإن الولايات المتحدة تخشى على «توقف» تركيا عن مواصلة تزويدها أوكرانيا بالطائرات المسيّرة المميزة. إضافةً طبعاً لخشية الولايات المتحدة من أن يؤدي وقوفها الحازم ضد العملية التركية إلى «تعزيز» علاقات تركيا مع روسيا، والذهاب أبعد كثيراً من العلاقات التركية الروسية في واقعها القائم خصوصاً أن أيّ درجةٍ من الميل التركي نحو موسكو، ومهما كان محدوداً فإنه سيلحق بأميركا و»الناتو» ودول الاتحاد الأوروبي اللصيقة بالولايات المتحدة أضراراً بالغة وخطيرة.
وروسيا من ناحيتها، أيضاً، تحاول «إقناع» تركيا بالعدول عن هذه العملية، لكنها لا تملك الأوراق الكافية لمنعها من الإقدام عليها، وذلك لأن تركيا ما زالت النافذة الغربية الوحيدة لـ»اتفاقية الحبوب»، و»مشروع تجميع الغاز الروسي»، وتزويد تركيا بالمزيد من المنظومات العسكرية المتطوّرة، خصوصاً إذا قرّر «الجمهوريون» وقف صفقة بيع الطائرات الأميركية الحديثة لها.
وروسيا تدرك أن العملية العسكرية البرية في الشمال السوري ستعني إعادة مشاغلة القوات السورية مع «داعش»، وزجّ الفصائل المسلحة في بعض مناطق إدلب في مساندة القوات التركية، وربما تسليم هذه الفصائل مهمات جديدة في «حماية» الحدود التركية، وفي تأمين ما يشبه المنطقة العازلة في بعض مناطق الشمال السوري، ما سيعني أن سلاح الجو الروسي سيعود للعمل النشط من جديد، وسيتم «تأجيل» كل المبادرات السياسية للحل السياسي إلى أجلٍ أو آجالٍ جديدة من شأنها قطع الطريق على رغبة موسكو بالإسراع في الوصول إليها.
كما أن روسيا تراهن على الدور التركي في «تنظيم» المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا عندما يحين أوانها، والتي تجمع الأوساط كلها تقريباً على اقتراب البدء بها، بعدما يئس الغرب من تغيير مسار هذه الحرب، وبعدما وصلت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا تحديداً إلى حافّة الخطر، إن لم نقل إلى حافّة الهاوية. بل إن أوروبا نفسها لا تستطيع «الاستغناء» عن الدور التركي في المستقبل السياسي للحل بعد توقف الحرب.
وبالرغم من أن «ضرر» العملية العسكرية البرّية على كلٍّ من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا يكاد يكون متساوياً إلّا أن معارضة روسيا للعملية لا تبدو مساوية للمعارضة الأميركية والأوروبية. وتفسير هذا الأمر يكمن أساساً في أن «الأزمة» المنتظرة في العلاقات التركية الأميركية أكبر بكثير من حجم الاعتراضات الروسية على هذه العملية.
بصرف النظر عن كل هذه التعارضات والمفارقات والاختلافات في مصالح كل الأطراف فإن تركيا تبدو مصمّمة على «فرض» وقائع «جغرافية» عسكرية تقطع الطريق نهائياً على التواصل الكردي، وتضع حدّاً فارقاً وجذرياً للطموحات «الكردية» السورية والعراقية والتركية والإيرانية على حدٍّ سواء.
تحتفظ الولايات المتحدة بعلاقات مميّزة مع أكراد العراق، وبعلاقات خاصة بأكراد سورية، ولها علاقات «أمنية» مع أكراد إيران، وليس هناك ما يشير إلى أن علاقاتها بأكراد تركيا على أيّ درجة مهمة أو خاصة. ولا تملك روسيا مثل هذه العلاقات مع الأطراف الكردية المختلفة، في حين أن العلاقات الأوروبية مع هذه الأطراف الكردية تكاد تكون نسخةً مخفّفة من العلاقات الأميركية بهذه الأطراف الكردية، لكن المهم هنا أن الدولة التركية ــ بصرف النظر عن النظام السياسي فيها، والدولة الإيرانية، بصرف النظر عن النظام السياسي فيها ــ هما من وجهة النظر الاستراتيجية ضد أيّ تواصل أو اتصال حقيقي أو فعّال بين الأطراف الكردية كلها، وهما تخشيان حتى وإن كانت الخشية التركية أكبر من الإيرانية، تخشيان هذا التواصل وتعتبرانه خطراً وجودياً وتهديداً مباشراً لوحدة الدولتين.
يختلف الأمر في سورية والعراق لجهة أن أكراد العراق تاريخياً تحصلوا على حكم ذاتي واسع معترف به من قبل الدولة العراقية قبل سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين، وعلى «حكم ذاتي» أوسع كثيراً من «الحكم الذاتي» المعترف به بعد سقوط النظام.
في سورية لا يوجد ما هو أبعد من بعض السمات الثقافية لـ»الحكم الذاتي»، ولولا الوجود الأميركي في المنطقة لما كانت قضية الكرد في سورية مطروحة بهذا المستوى أصلاً.
أمام كل هذه الحقائق والوقائع فإن تركيا تشعر بأن لديها الآن فرصة لن تتكرّر لتحقيق «طموحاتها» في الأراضي السورية، وسيطرتها على مناطق واسعة من الشمال السوري، إن لم يكن للاحتفاظ بها، فللمساومة بها عندما يحين أوان الحلّ السياسي في سورية، وإلى أن يتم ذلك فإن تركيا ستمنع الأكراد السوريين، وحتى الأكراد العراقيين من «إيواء» «حزب العمال» في مناطقهم، وستمنع بالقوة العسكرية التواصل الجغرافي والديمغرافي بين الأكراد تماماً كما ستحاول إيران منع تواصل الأكراد العراقيين بالأكراد الإيرانيين.
باختصار، ترى تركيا، وكذلك إيران أن العصر «الذهبي الأميركي» للأكراد قد انتهى، وأن أميركا لم تعد قادرة على حماية أحد في هذه المنطقة باستثناء حماية إسرائيل، التي تسلم بها تركيا، ولا تسلم بها إيران علنياً.
إذا شعرت أميركا أن العملية العسكرية التركية ستلوي ذراع الولايات المتحدة فإنها سترد على أردوغان في الانتخابات، ولديها الوسائل الكافية لذلك.
وإذا تمادى أردوغان في العملية فإن قواته ستتعرض لـ»حرب عصابات» لن يتمكن مطلقاً من الانتصار فيها، وستتحول العملية إلى أكبر من مجرد حملة انتخابية، وقد تصل الأمور إلى ورطة قاتلة.
كل الأطراف ستراقب درجة الحذر التركي وحدود العملية قبل أن تتخذ الموقف النهائي منها.
وإلى حينه، فإن أردوغان هو المطالب بدقة الحسابات قبل غيره، لأن الحروب ليست سبباً كافياً لربح الانتخابات، كما أنها ليست مجرد فرصة.