أربع مدن تحدّد مصير الحرب الأوكرانية: كييف، وماريوبول، وخيرسون، وأوديسا. مع الشهر السابع من الحرب وانشغال العالم بنتائجها المؤثرة على اقتصاد الدنيا، وربما الانشغال لفترة قصيرة بأزمة أخرى نشبت في تايوان، فإن مصدر السخونة الدولية يظل مستعراً على أرض أوكرانيا؛ مع انتقال نقاط التركيز من كييف التي نجت من الاحتلال الروسي وتغيير نظام الحكم، إلى ماريوبول الواقعة على بحر «أزوف» - أحد ملحقات البحر الأسود - والتي أشهرت سقوط إقليم «الدونباس» في القبضة الروسية. والآن فإن «معركة خيرسون» تدور رحاها على امتداد الخط الشمالي للبحر الأسود حيث المدينة ذاتها بأبنيتها الكلاسيكية العتيقة، وسكانها الذين لا يزيدون على ٣٠٠ ألف نسمة، تقف عنواناً لهذه المرحلة من الحرب.
وحتى لا تضيع الخيوط أو تختلط، فإن الحرب بدأت كمعركة روسية خالصة تحصل فيها موسكو المتفوقة في كل شيء على العاصمة، وهناك تطيح بالنخبة «النازية»، ويجري تغيير نظام الحكم، وربما يحاكم زيلينسكي رئيس الدولة إذا لم يتولَ أمر نفسه بالفرار، وبعدها تعود أوكرانيا ليس بالضرورة إلى أحضان روسيا بالاتجاه المعاكس لانهيار الاتحاد السوفياتي، وإنما على الأقل تصبح من الأقمار التابعة للإمبراطورية القيصرية الجديدة.
مفاجأة الحرب كانت صمود العاصمة، وتماسك قيادتها، ونجاحها في إدارة معركة عسكرية اعتمدت على استنزاف خطوط الإمداد الروسية الطويلة. «ماريوبول» مثلت حقيقة أخرى من حقائق الحرب التي عبّر عنها السياسي وعالم العلاقات الدولية هنري كيسنجر، عندما بشر بالسيناريو الذي يرى ضم إقليم الدونباس إلى روسيا بسكانه أصحاب الثقافة الروسية يحقق المعادلة التي تنهي حروباً على طريقة «لا غالب ولا مغلوب»، فتحصل أوكرانيا على البقاء المحايد بالطبع، وتحصل روسيا على الإقليم المماثل لإقليم القرم.
ولكن ليس بمثل هذا تنتهي الحروب، فبعد أن حشدت روسيا لتفوّقها ونجحت في إسقاط ماريوبول بعد معركة ضارية، فإنها مضت قدماً للسيطرة على خيرسون التي تقود الطريق إلى أوديسا ميناء أوكرانيا الرئيسي على البحر الأسود ونافذتها البحرية الرئيسية على العالم. مواصلة الطريق هكذا تجعل أوكرانيا دولة حبيسة من ناحية، وتغلق الطريق على مراجعة ضم روسيا لإقليم القرم كله، ومن ثم يكون إعلان النصر الروسي مهما كان ثمنه مقبولاً في الخارج والداخل أيضاً. مثل ذلك لم يكن ليغيب عن ذكاء القيادة الأوكرانية، التي حاولت من ناحية أن تحمي أوديسا من خلال دبلوماسية القمح التي سمحت لأوكرانيا بتصدير بعض من إنتاج القمح، ولكنها في نفس الوقت شنّت هجوماً مضاداً لاستعادة خيرسون. الفارق في الإستراتيجية العسكرية كبير بين موسكو وكييف، حيث الأولى تدير المعركة من خلال تكامل أسلحتها المدرعة والنيرانية من المدافع والطائرات، واندفاع قوات المشاة لكى تستولي على قرى ومدن.
في العموم، فإن ميراث الحرب العالمية الثانية لا يزال موجوداً مع إضافة تكنولوجيات جديدة تطورت عبر الزمن، مضافاً إليها نوعيات جديدة من السلاح مثل الطائرات المسيّرة «الدرونز» القادمة من إيران. على الجانب الآخر، فإن الجيش الأوكراني يدير الحرب بطرق مختلفة، بعضها طورها وأتقنها خلال مسار الحرب منذ معركة كييف. حتى الآن فإن كييف لا تركز على اكتساب الأرض، وإنما على الإنهاك الصبور للقوات الروسية بتدمير مفاصلها اللوجستية وخطوط الإمداد والتموين ومناطق تخزين الذخيرة، وقبل ذلك كله مناطق القيادة والسيطرة، مع تكبيد القوات الروسية خسائر كبيرة في الأرواح.
معركة خيرسون سوف تكون الفاصلة في الحرب؛ لأنها تلقي بأعباء ثقيلة على القيادة الروسية، لكي تعلن التعبئة العامة حتى تتوافر لها القوات التي تقضي على «التفوق التكتيكي» البشري الأوكراني وتفتح الطريق إلى أوديسا. وحتى الآن فإن موسكو تحاول تجنّب ذلك بتعبئة جزئية داخل الحكومة وشركات القطاع العام لتحقيق النصر في معركة دامية.
على الجانب الآخر، فإن المعركة تلقي بأعباء لا تقل ثقلاً على كييف، لأن الجبهة الأوروبية وراءها أصابها إنهاك كبير من المعونات الاقتصادية والعسكرية في الأسلحة والذخيرة التي تستهلكها القوات الأوكرانية بسرعات مخيفة، وأكثر من ذلك من ضغوط التضخم والأسعار والحرمان من مخزون كافٍ من الطاقة يوفر الدفء في شتاء متوقع قارس قادم.
كل ذلك خلق حالة من الململة والضيق والإضرابات العمالية، وانقلاب التعاطف مع اللاجئين الأوكرانيين من التعاطف إلى الضجر إلى الغضب. الميزان بين هذا الجانب أو ذاك يبدو دقيقاً، وتعالجه موسكو داخلياً بأن يكون شكل الحرب كما لو كانت تجري في بلاد بعيدة، أما كييف فإن «العلاقات العامة» والمعلومات التي توفرها مساء كل يوم تبدو سلاحاً ليس فقط لتعبئة الجبهة الداخلية، وإنما لإبقاء حماس الحلفاء كافياً.