عن الغزو الفكري..عبد الغني سلامة

الإثنين 05 سبتمبر 2022 08:52 ص / بتوقيت القدس +2GMT
عن الغزو الفكري..عبد الغني سلامة



في واحد من أغرب التصريحات، كتب أحد مشايخ غزة، ويزعم أنه أستاذ دكتور: «احفظوا أولادكم من الغزو الفكري الذي ينال من دينهم وأخلاقهم. فرقة نصرانية خليط من نساء متبرجات وشباب تدخل غزة وتضع إعلاناً عن نشاطها». والأغرب رد شيخ آخر يزعم أنه بروفيسور، فكتب: «أين المسؤولون الشرفاء من الإفساد المنظم الذي يمارسه الأعداء في عرينهم؟».
لن أناقش هنا مستوى الهبوط في الدرجات الأكاديمية، ومقدار الاستخفاف في منح الألقاب العلمية، فتلك إحدى مصائبنا وأسباب تخلفنا، والكارثة أن مثل هؤلاء يدرّسون ويخرّجون آلاف الطلبة، ويحشون رؤوسهم بمثل هذه الخزعبلات والترهات. وذلك واضح في حجم وعدد المغالطات التي وردت في النصين، فضلاً عما تضمنته من بُعد طائفي، ومن تحريض على النساء. وأنا أفترض أن أي شخص ينال قسطاً من التعليم، خاصة التعليم العالي، من المفترض أن يكون قبل درجته العلمية إنساناً، ثم إنساناً متنوراً.
التصريحات المنسوبة إلى هذين «الأستاذين» رداً على نشاط تقوم به فرقة محلية تدعى «موزي وفوزي وتوتي» وهم شبان يقدمون مادة فكاهية للتسلية، ولديهم عشرات المقاطع الكوميدية على قناة يوتيوب، وقد جاؤوا إلى غزة لزيارة أطفال مصابين بالسرطان للتخفيف عنهم وتسليتهم، ومثل هذه الفعاليات تساعد المرضى في رحلة العلاج.
«موزي وفوزي وتوتي» صاروا أعداء! وهم مجرد «نصارى»، ونساء «متبرجات»، وما يقدمونه صار غزواً ثقافياً، وإفساداً منظماً!
أما حال غزة البائس، وكل ما يعانيه الناس من فقر، وبطالة، وغلاء أسعار، وضرائب باهظة، وقطع للكهرباء، وتلوث للمياه، وفقدان الأمن، وانعدام الأمل، والإحباط، وعشرات الشبان الذين يغرقون في البحر هرباً من حكم «حماس»، أو ينتحرون ويحرقون أنفسهم تعبيراً عن احتجاجهم على الظلم.. كل ذلك لا علاقة له بالفساد والإفساد! وثلاثة شبان جاؤوا لرفع معنويات الأطفال يمثلون الانحلال والغزو الفكري!
وهذه ليست حالة منفردة في القطاع المبتلى، فقد سبق لمشايخ غزة مضايقة ومطاردة وتهديد فرقة موسيقية لشبان كانوا يحلمون بمستقبل مشرق، أو يحاولون التغلب على الواقع البائس، بتقديم عروض موسيقية في الساحات العامة، فظلوا يحرضون عليهم حتى «طفشوهم» من البلد.. وباستخدام الذرائع نفسها.  
الوضع في الضفة الغربية ليس أفضل بكثير، وأقصد من ناحية شيوع الثقافة المتطرفة، والعصاب الذكوري، والتعصب الديني. وهي أعراض لمرض الجهل، وتظهر كلما أقيمت حفلة موسيقية، أو أي نشاط ثقافي يعتبره البعض خروجاً عن قيم وأخلاق المجتمع، بما في ذلك ما يتصل بالعلم التجريبي.  
فمثلاً، قبل سنوات قامت مدرسة بفصل معلمة الأحياء، لأنها تدرس الطلبة نظرية التطور! وقبل فترة قصيرة تم الاعتداء على مسرح عشتار بتهمة محاولة نشر قيم غريبة ومستهجنة! وبعدها بفترة قصيرة اعترض الأهالي على محاضرة في مخيم صيفي للفتيان نظمته مؤسسة القطان تناولت موضوع نشأة الكون من منظار علمي ومادي!
وقبل ذلك نظم نشطاء حزب التحرير حملة تحريض ضخمة على قانون حماية الأسرة، وأطلقوا مسيرة قدرت أعدادها بعشرات الألوف في الخليل، في حين تغيب تلك القوى كلياً، وتصمت صمت القبور إزاء الحروب العدوانية على غزة، أو لمناصرة قضايا الأسرى، أو للتصدي للاستيطان، وأي شيء له علاقة بمواجهة الاحتلال، وكأن الأمر لا يعنيهم بشيء! وهناك حملة ممنهجة مثيلة في الأردن ضد قانون حماية الطفل، والحجة دوماً هي أن هذه الاتفاقيات والقوانين تتعارض مع قيم مجتمعنا، ومع أخلاقنا وديننا الحنيف!
في واقع الأمر هناك خيط ناظم يجمع كل هذه الفعاليات الاحتجاجية، وثمة قاسم مشترك بينها ينطلق من الأسس والمعايير التالية:
أولها: أننا في أوضاع أحسن من غيرنا، وهذه غير صحيح، والحقائق الموضوعية التي تدعمها مئات الشواهد تؤكد أننا نعاني وأننا متخلفون عن غيرنا من الشعوب بأشواط.
الثانية: رفض كل ما يأتي من الغرب.. وهنا نجد حكماً قاطعاً مانعاً يعتبر أن كل ما ينتجه الغرب فاسد، وهذه المقولة مليئة بالمغالطات، فأولاً الغرب ليس شيئاً ثابتاً ومطلقاً، ولا هو كتلة متجانسة، وليس هناك تعريف محدد يصلح لفهم مصطلح الغرب. وثانياً: الغرب (أو العالم بشكل عام، أو الحضارة الإنسانية الجمعاء) أنتج العلوم، والفلسفة، والمخترعات، والطب، والأدوية، والزراعة الحديثة، والتصنيع الغذائي، والفنون، والموسيقى، والمسرح، والآداب، والرياضة، والأدوات التي سهلت حياتنا، وجعلتها ممكنة. كما أنتج قيم الإنسانية، والاتفاقيات التي نظمت وكفلت حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل وذوي الإعاقة، والأسرى، واللاجئين، والمشردين.
صحيح أن تلك الاتفاقيات ليست كاملة، ولا أحد يدعي أنها تخلو من الأخطاء، أو أنها تناسب جميع المجتمعات، كما أن الالتزام بها انتقائي، وبمعايير مزدوجة. وصحيح أيضاً أن الغرب أنتج الرأسمالية المتوحشة والنيوليبرالية الأشد توحشاً، وأنتج الجريمة المنظمة، والحروب، والأسلحة النووية، وخرّب البيئة. فللحقيقة دوماً وجهان، ولا توجد ظاهرة صحيحة بالمطلق، أو فاسدة بالمطلق.
الثالثة تتعلق بمفهوم «قيم مجتمعاتنا».. وكأنَّ كل قيمنا مثالية ورائعة.. وهذا ليس صحيحاً.. فبوسع أي باحث عن الحقيقة ذِكر عشرات «القيم» الفاسدة الموجودة في مجتمعاتنا، أولها العنصرية، وتمجيد العنف، والنظرة الدونية للمرأة وقتلها بحجج واهية، وشيوع المفهوم المشوه للشرف، وعدم احترام الوقت، أو تقدير قيمة العمل، وغياب الإحساس بالمسؤولية المجتمعية، والمشاركة العامة، والفوضى، والنظرة المتخلفة للطفولة، وللبيئة، ومعاداة قيم الحداثة والتطور.. وللأسف هذه القيم يقرها المجتمع بقبول ضمني.
ويمكن أيضاً ذِكر عشرات القيم الغائبة عن عقلنا الجمعي والتي تفتقر إليها ثقافاتنا المجتمعية، مثل قيم التسامح، والتعددية، وقبول الآخر، وقيم المواطَنة.. وذِكر عشرات القيم الرائعة والتي تشكل جزءاً أصيلاً من ثقافتنا ولكنها تبقى في الإطار النظري والمثالي، وبالكاد تجدها في الممارسات اليومية.
باختصار، الحضارة الغربية فيها الجيد والسيئ، وكذلك مجتمعاتنا.. ينبغي فهم هذه الحقيقة، والاعتراف بها، ثم الاندماج مع الحضارة الإنسانية بعقل منفتح، ورفض كل ما يتعارض مع الإنسانية.
وفي الحقيقة، الاختلاط، والحضور القوي للمرأة، والموسيقى، والحفلات، والاحتفال بالجمال، ومواكبة العلم والتطور الحداثي، ليست قيماً غريبة عن مجتمعنا. هي في الأساس من صلب تراثنا الشعبي.. وتنسجم تماماً مع روح ديننا الحنيف.. لكن دعاة التعصب، والانغلاق الفكري، والجمود، والتصحر، ومحاربي الجمال والفن والفرح، وأعداء الحياة هم من يروجون لمثل هذه المقولات.. وهم الغرباء عن قيم مجتمعنا الأصيلة.