لا تزال تفاصيل الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وإيران من جهة أخرى طي الكتمان، حيث يقول الجانبان إن الحديث عنها قبل توقيع الاتفاق ربما يفسده. رغم ذلك، هنالك بعض التسريبات الموثوقة التي تسمح بالحديث عن الاتفاق.
الجانب الأميركي حاول من خلال المماطلة بالعودة إلى الاتفاق إلى توسيعه ليشمل قضايا لم تكن موجودة في الاتفاق الأصلي الذي تم توقيعه العام 2015 مثل برنامج إيران الصاروخي والنفوذ الإيراني المتزايد في العالم العربي، لكن الرفض الإيراني الصارم جعل ذلك غير ممكن.
والواقع أن إيران لم يكن يهمها ما تطالب به أميركا لأن المسألة لم تكن بالنسبة لها إعادة التفاوض على اتفاق تم إنجازه والتوقيع عليه العام 2015 ثم خرجت منه الولايات المتحدة، ولكن في كيفية التعامل مع حالة مماثلة على الأغلب ستحدث فيما لو تغير الرئيس الأميركي وحل محله الرئيس السابق ترامب بعد عامين أو أي رئيس جمهوري آخر.
بمعنى آخر مشكلة إيران كانت ماذا لو تم التوقيع على نفس الاتفاق ثم تخلت عنه الولايات المتحدة بعد عامين؟ أي ضمانات يمكن لإدارة بايدن تقديمها لإيران تمكنها من حماية مصالحها إذا تكرر ما حدث العام 2018 عندما غادر ترامب الاتفاق.
الصراع على الضمانات بالتوصيف الإيراني مع الولايات المتحدة كان هو موضوع التفاوض بالنسبة للإيرانيين.
الولايات المتحدة تحت إدارة بايدن تقول إنها لا تستطيع تقديم هذه الضمانات التي تريدها إيران، لأن كل إدارة أميركية «حرة» فيما تقرره إلا إذا كان الاتفاق معتمداً من الكونغرس بغالبية ثلثيه وإدارة بايدن لا تمتلك هذه الغالبية.
هنا انتقلت إيران للبحث عن ضمانات أكثر واقعية منها الاحتفاظ بكميات كبيرة من اليورانيوم المخصب بدلا من تسليمها لروسيا، كما كان الحال عندما كانت أميركا ملتزمة بالاتفاق والاحتفاظ بأجهزة الطرد المركزي المتطورة التي أدخلتها إيران إلى مفاعلاتها النووية بعد خروج الولايات المتحدة منها.
الولايات المتحدة لم ترغب بالموافقة على المطالبات الإيرانية ووصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، وكانت هنالك رغبة أميركية وأوروبية بمعاقبة إيران على رفضها، ومن هنا جاء تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي ادعى أنه تم العثور على آثار لمواد مشعة نووية في أماكن بإيران لم تعلن عنها الأخيرة أنها مواقع نووية.
وهو ما يعني أن إيران تخفي أو أن لديها برنامجا نوويا سريا، وهذا بدوره يعني أن الولايات المتحدة وأوروبا من حقهما العودة لمجلس الأمن للمطالبة بفرض عقوبات اقتصادية جديدة على إيران.
المفارقة أن المعلومات بهذا الشأن قدمتها إسرائيل لرئيس وكالة الطاقة الذرية، وما كان يجب الأخذ بها لأن إسرائيل تمتلك سلاحا ذريا، ولأن إسرائيل رفضت اتفاق العام 2015 وترفض أي اتفاق مع إيران لا يجردها من كل إمكانياتها العلمية في المجال النووي.
وهذا يعني تدمير مفاعلات إيران النووية بالكامل، ومراقبة أي مصانع أو مؤسسات إيرانية يمكن استخدامها لإنتاج مواد لها علاقة بالبرنامج النووي، وربما تصفية العلماء النوويين الإيرانيين أو نقلهم لأماكن خارج إيران.
في المحصلة اختار «الغرب» التصعيد مع إيران عبر ادعائه بوجود أماكن فيها آثار لمواد مشعة على إيران تقديم تبرير بشأنها، وإذا قالت إيران وهو ما قالته إنه لا توجد مثل هذه الآثار، فإن الغرب سيدعي العكس ويمضي باتجاه التصعيد.
لكن النفاق الغربي كانت له نهاية. الحرب الروسية على أوكرانيا والأزمة العالمية للطاقة التي تسبب الغرب لنفسه بها من خلال فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، جعلته في أشد الحاجة لمصادر بديلة للطاقة الروسية (الغاز تحديدا والبترول).
في البداية حاولوا تعويض ذلك من العربية السعودية وقطر، وعندما فشلوا لرفض السعودية رفع سقف إنتاجها من البترول، ولأن قطر لا يمكنها مغادرة عقود طويلة الأمد موقعة بينها وبين العديد من دول آسيا وتحويلها لأوروبا، عادوا لإيران لأن بإمكانها ضخ أربعة ملايين برميل من النفط في السوق حال الافراج عن «بترولها» المحاصر، ولأن مخزونها من الغاز يأتي بعد روسيا وقبل دولة قطر.
الحاجة للمخزون الإيراني من النفط والغاز فرض على الغرب الموافقة على جزء من الشروط التي تطالب بها إيران وهي الضمانات.
نعلم الآن على الأقل بأن الغرب خضع للمطلب الإيراني بالاحتفاظ بأجهزة طرده المركزي المتقدمة، وهو ما يسمح لها بالعودة خلال أيام لإنتاج يورانيوم مخصب بالنسبة التي تريدها بما في ذلك نسبة كافية لإنتاج سلاح ذري إذا ما أرادت.
لا نعلم بعد إن كان هنالك تنازلات أخرى قدمتها أميركا لإيران، لكن هذا وحده يكفي بالنسبة لإيران للموافقة على العودة للاتفاق النووي والاستفادة من عائدات النفط لمدة سنتين على الأقل حال خرجت الإدارة الأميركية القادمة أوائل العام 2025 من الاتفاق.
ما يعيق توقيع الاتفاق الآن هو المطلب الإيراني بإغلاق ملف التحقيق التي فتحته الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد الادعاءات الإسرائيلية بوجود برنامج نووي سري في إيران. الولايات المتحدة ترفض ذلك، أوروبا موافقة على إغلاقه، وإيران مصرة على ذلك.
قناعتي أن الاتفاق سيوقع وأن هذا الملف سيغلق لأن النفط والغاز الإيرانيين مطلوبان. فأوروبا لا يمكنها أن تحتمل النقص في توريدات النفط والغاز الموجودة حاليا لوقت طويل. والولايات المتحدة لا يمكنها إذا ما أرادت الحفاظ على التحالف الغربي من إدارة ظهرها لحلفائها في أوروبا.