أول أيام المدرسة ..سما حسن

الخميس 01 سبتمبر 2022 03:31 م / بتوقيت القدس +2GMT



الكل يضحك على الكل، هكذا بكل بساطة ووضوح، فلا أحد يحب المدرسة حتى الأطفال الذين ارتدوا الزي المدرسي الجديد وحملوا الحقائب وحاويات الماء وصناديق الطعام التي تم ابتداعها تحت مسمى "اللانش بوكس"، مرورا بالمعلمين فهم لا يرحبون ويشعرون بضجر مسبق من شقاوة الصغار، خصوصا ومن العودة إلى الروتين عموما. لا أحد يشعر ببهجة حقيقية لبدء العام الدراسي لو استثنينا الباعة الجائلين الذين عادوا للاصطفاف أمام بوابات المدارس رغم زجر إداراتها، وعاد السائقون الذين يعملون بنظام نقل الأطفال طيلة العام بالتعاقد مع ذويهم بحيث يحصل السائق على حسابه شهريا، ما يجعله مثل الموظف، فقد عادوا بعد أيام كساد و"مرمطة" بين ركاب عاديين كبار وطاعنين ومحملين بالخضار ورائحة البصل والثوم، فاليوم، بدأ العام الدراسي وعادت حساباتهم المضبوطة وتحدثوا فيما بينهم عن مجموعات التلاميذ الذين يقومون بنقلهم من والى المدارس بمسمى "أولادي"؛ فالسائق مسؤول عنهم مسؤولية تامة وتنشأ بينه وبين ذويهم علاقات طيبة، أما سائقو الباصات التابعون للمدارس فهم لا يرحبون على الإطلاق بعودة الأجساد الصغيرة التي تنحشر في مركباتهم، فصوت عراكهم والركلات والبكاء والعويل خاصة في الأيام الأولى لا يجعلهم ممن يرحبون بعودة العام الدراسي على الإطلاق.
لا أحد من ذوي الأطفال الشهداء الذين قضوا في القصف الأخير على غزة يرحب بعودة العام الدراسي والذكريات الحزينة، خاصة مع سجلات الحضور والغياب وأوراقهم الثبوتية ومقاعدهم الفارغة والطابور الناقص والأحلام المهدورة، فلا احد يريد أن يبدأ العام الدراسي بطفل غائب ترك سريرا غير مرتب ومضى إلى حيث اللاعودة.
المقاعد الفارغة في البيوت والمدارس وطوابيرها مؤلمة، لكن ذلك لا يعني أن يكون اليوم الأول استذكارا لمن رحلوا فهم في القلوب أولا وأخيرا، وهم غصة في الروح ونحيب لا يتوقف في الحنايا، لكن تذكرهم في أول يوم من أيام العام الدراسي ربما يشعرك بأن الخطر لا يزال داهما وهو كذلك، وربما يشعر الصغار في فصولهم بخوف مبهم من قادم مخيف كأنه وحش لا يتوقف عن مهاجمة أعشاش العصافير فيقتنص منها ما تطاله يده ثم يعود إلى وكره أو كهفه حتى إذا ما استبد به الجوع يهاجم مرة تلو المرة، فما بالنا نذكر الصغار بهذه الهجمات المؤلمة التي لا يستطيع احد مواجهتها حتى اللحظة.
أول أيام المدرسة يحمل ذكريات كثيرة ويحمل غصات أكثر، لكننا نقول لأنفسنا إننا أبناء الغد وعلينا أن نبدأ من جديد وان ندفع الصغار نحو مستقبلهم، وعلينا أن نكون ذوي حس وشعور حين نهندم صغارنا فلا نبالغ شفقة وإحساسا بأب فقير لم يستطع أن يشتري زيا مدرسيا لطفله، فرقعت الأم زيا قديما أو قامت بتصغير آخر ليصبح مناسبا لابن أكثر نحافة وأقصر قامة.
في اليوم الأول للمدرسة، كنت لا أرتدي المريول الجديد على الإطلاق، لم تكن أمي تسمح لي بذلك أبدا، فالمريول الجديد سوف يتسخ لأن المقاعد متسخة وليس هناك من يعتني بتنظيفها والآذن العجوز لا يقوى على تنظيف ومسح غبار فصول كثيرة متجاورة، لذلك كانت المعلمات يعهدن للتلميذات الصغيرات بتنظيف الفصول ونفض الغبار والنتيجة أننا كنا نعود إلى بيوتنا متعبين ومتربين ومبللين لأننا كنا نبالغ في التنظيف فنرش الأرضيات المهشمة بالماء ونمسح المقاعد المتكسرة بالمناديل القماشية خاصتنا بعد أن نبللها بالماء.
هكذا تمضي السنون وتمر الأيام ويتغير كل شيء، لكن تبقى النتيجة الواحدة التي تكتشفها وهي أن لا أحد يحب المدرسة، ومنذ زمن بعيد لم يكن يحبها سوى البائع العجوز الذي كان يقف على باب المدرسة ويبيع المهلبية ذات اللونين وانت لا تعرف سر طعمها اللذيذ، ومهما اجتهدت الأم في إعدادها في البيت فتلك التي يضعها البائع العجوز في طبق من المعدن يتناوله من يدك حين تلعق بقاياه ثم يغسله كيفما اتفق ويعيد تعبئته لتلميذ آخر، لا شيء يضاهي تلك اللذة حتى وأمي تتهمه بأنه لا يهتم بالنظافة وتردد على مسامعي ليل نهار مقولة "لا تشتري الحلوى المكشوفة".