خبر : الممثلون عملوا دون اجر وتقاسموا التكلفة مع المنتج 'هليوبوليس': فيلم عميق بصورة هامسة وعلامة فارقة في السينما المصرية ..فادي عزام

الإثنين 19 أكتوبر 2009 12:03 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الممثلون عملوا دون اجر وتقاسموا التكلفة مع المنتج 'هليوبوليس': فيلم عميق بصورة هامسة وعلامة فارقة في السينما المصرية  ..فادي عزام



    بعد ما حصل في مهرجان تورنتو الدولي في كندا وما صاحبها من سحب المخرج الكندي جون غريسون مشاركته احتجاجا على احتفال المهرجان بتكريم مدينة تل أبيب ثقافيا. فكان رد مدير المهرجان أن هناك خمسة أفلام عربية مشاركة، ولم تنسحب، فاسترعى هذا بيانا أصدره كل من يسري نصر الله و أحمد عبد اللـه يعترضون على وضعهم في هذه الخانة ويؤكدون أنهم يقاطعون أسرائيل يوميا ولكن غيابهم من محفل دولي وثقافي هام يعطي الفرصة لإسرائيل بالتواجد بقوة وغير أن منتج الفيلم شريف مندور قرر الانسحاب لأنه لا يقبل المشاركة في تظاهرة تحتفل بمدينة تل أبيب. الفيلم عرض لأول مرة في الشرق الأوسط وهي التسمية الغامضة عن منطقتنا المحتشدة بالتناقضات، في مهرجان الشرق الأوسط للسينما في دبي. كمشارك عن فئة الأفلام الروائية في هذه التظاهرة الملتبسة الاسم، فماذا يعني مهرجان عن الشرق الأوسط؟ من هي الدول التي يحق لها المشاركة؟ على كل حال ، هذا موضوع يمتلك من الحساسية الشيء الكثير. فلنعد إلى فيلم هليوبوليسإذا أردنا آن نرصد الرأي العام ورأي النقاد مع قليل من (بهار) الرأي الشخصي، سنجد أننا أمام فيلم مفاجئ على كل الأصعدة، ويمكن القول أنه سيكون علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية فهو مشغول بصوفية سينمائية إذا جاز التعبير وكما صرح فريق العمل بعد عرضه. فالفيلم عمل به الممثلون بدون أجر تقريبا، وتكلفته تقاسمها كل من المنتج وبعض الممثلين، وأنجز تصويره في زمن قياسي ( 16 يوم تصوير)، هذا العمل ببساطة يخرق أخلاقيات الإنتاج المتعارف عليها التي روجت كمّا أضّر بسمعة السينما المصرية وروجت على مدى سنوات أفلاما بلا معنى تحت شعارات غريبة منها الجمهور، وممثلي شباك التذاكر وتفصيل الأعمال على مزاج منتجين غير معنيين لا بالسينما ولا بماهيتها ليجيء هذا الفيلم الذي سيكون بالفعل نقطة تحول في السينما المصرية على الأرجح. الحكاية والسيناريو السيناريو مشغول بعناية سينمائي محترف، بلغة خالية من الحشو والمقولات والكلشيهات الجاهزة ، انه فيلم سينمائي بامتياز، لا يتعاطف ولا يبالغ غير أنه مشبع بحساسية إنسانية عالية، خال من كل التقاليد السابقة لما يسمى ’سينما المقاولات ’أو ’موجة الشباب’، وببراعة وحساسية عاطفية عالية، يفرد الفيلم على امتداد دقائقه المائة والثلاث، حيوات خمس شخصيات رئيسية تعيش في مصر الجديدة، المنطقة التي سكنها الخواجات (اليونانيون) واليهود في السابق. القصة تمتد زمنيا على مشارف يوم واحد من الصباح حتى الصباح التالي. يرصد بيوم واحد قصص شخصياته، تدور في فراغ محكم، لا تنجز شيئا ..لا تحقق شيئا.. لا تفعل شيئا سوى أنها تكسوالانتظار باكسسوارات من قطع أحلام معطوبة وأمال مهدورة، تقهرها التفاصيل الصغيرة، التي تنفرج وتكبر لنجد أن جيلا كاملا يبدأ يومه بأهداف صغيرة مثل أن يقبل طلب الهجرة لكندا أو يستطيع الشابان المخطوبان أن يشتريا ثلاجة، أو يحقق شاب جامعي مقابلة شخصية مع سيدة من الأقليات لبحثه الجامعي، لنجد أخر النهار، إن لا شيء ينجز والزمن يمر بلا شيء بلا علامات عن التغير، يتغير العابرون به فليسوا أكثر من زوائد عن حاجة المكان والزمان، الفراغ يلتهمهم، في عتمتهم ووحدتهم أو سيكارة الحشيش هي الصديق الأكثر ألفة للفراغ. إبراهيم (خالد أبو النجا) طالب جامعي يقوم ببحث عن الأقليات التي عاشت في مصر، يذهب لمقابلة سيدة (فيرا)، وأثناء ذهابها لأعداد كأس من الشاي قبل الحوار، ينظر إلى الصور في الصالون ومن الباب الموارب إلى غرفة داخلية يكتشف أن السيدة يهودية.، نزيلة بيتها منذ سنوات لم تعد تخرج أبدا بعد أن أقعدتها الوحدة والمرض، وترفض ان توثق الحوار بالكاميرة الصغيرة، وحين تبدأ حديثها عن الزمن الماضي وعن مصر الجديدة، يقرر إبراهيم أن يقدم هدية لهذه السيدة بأن يذهب إلى الشوارع والحواري القديمة ويسجل بكاميرته ما تيسر وهنا تبدأ الكاميرا برصد عفوي لحركة الشارع والمارة والأبنية ويسأل الناس عما تغير وكيف كان ما هو حاضر اليوم، لتجد الإجابات طريقها في محور واحد.(كان الماضي أفضل) ، يوم كان الخواجات هنا، كانت المنطقة أرقى يقول أحد الباعة القدمى، وهنا يبدأ إبراهيم باكتشاف هذا الحي ومتغيراته وأثناء عمله يوقفه ضابط أمن ويمنعه من المتابعة. زمن المفارقات الطريفة التي يلتقطها الفيلم إن إبراهيم ينتظر صديقه ليجلب قطعة حشيش، فيأتي الصديق متأخرا متذمرا أنه تجادل بعنف أمام المقهى مع بائع الحشيش الطماع بحجة أن القطعة التي معه هي القطعة الأخيرة. فيرد إبراهيم : ’ تتجادلون أمام المقهى علنا ولا حد وقفكن، وكاميرا صغيرة ترصد الشارع بدها تصريح’. يسرا (يسرا اللوزي) عاملة الاستقبال في فندق بنفس المنطقة، تحلم بباريس وتشاهد طوال الوقت المحطات الفرنسية، وكل شهر تبعث لأهلها في طنطا رسالة تصف لهم، كم هي رائعة الحياة الباريسية!! مع مبلغ من المال وأشواق حارة. فهي تكذب وكأنها حققت حلمها بالوصول إلى باريس، بينما واقع أيامها الروتيني في فندق بنجمتين وباب مفتوح تراقب من خلاله العالم وتنتظر منه شيئا ما ليحدث، مساء تأتي زميلاتها ويتأخرن على كسر رتابة الأيام المتشابهة، بالذهاب لاحتساء كأسين من البيرة وتدخين سيكارة حشيش ليعدن إلى المنزل . يسرا بينما صورة برج أيفيل الملصقة على جدار تقع مرة تلو أخرى وهي تحاول تلصيقها، حلم اخر يتناثر في هباء الفراغ الذي يحفل به الفيلم. من جماليات العمل أن الثنائيين يسرا وصديقتها وإبراهيم وصديقه يجلسون جميعا متجاورين والكاميرا تقطع بين أحاديثهم. دون أي حديث بينهم فيبقوا غرباء عن بعضهم. الخطيبان علي ومها (عاطف يوسف وأية سليمان) يخرجان لشراء ثلاجة ولكن يحاولان الحصول على موعد لرؤية الشقة ويعلقان في زحمة تبدو بلا نهاية، يركنان السيارة في مكان مخالف، يحصل بها على مخالفة تلصق على الزجاج، ولا يفلحان لا بشراء الثلاجة الموعودة ولا بالوصول على الموعد مع صاحب الشقة لأن الريس يمر ويسبب (عجقة ) سير خانقة توقف الحياة والسيارات وتحيل يومهما إلى يوم مليء بلا شيء. الدكتور هاني، يتقدم للسفارة الكندية بطلب تأشيرة، ترفض أوراقه الناقصة لكشف حساب بنكي، فيعود إلى إيقاع حياته اليومي، يأخذ كلبه في نزهته اليومية فيمر من أمام الفندق التي تعمل به يسرا، يربط الكلب في الشارع ويتلقى اتصالا من علي ليرى الشقة المعروضة للإيجار،يؤجل الموعد لعدم تمكنه من القدوم في الزمن المحدد، يقوم هاني بإنجاز يومه بحصيلة تقرب من لا شيء فكل الأفعال ستحدث غدا وما عليه سوى تمرير الزمن الذي لا يحدث أصلا بانتظار هذا الغد. وعلى هذا المنوال تستمر حركة الفيلم لتصور الكاميرا حارس الكنيسة الذي يكسو وقت مناوبته بإغان أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز وإطعام كلب شارد ولا ينطق بحرف واحد طوال الفيلم ويمر أبطال العمل من أمامه كل إلى فراغه المجيدالاحتفاء بالصورة الهامسة يقدم الفيلم بشكل بسيط عميق هذه العلاقات التي تتشابك، فنرى الشخوص تتحرك في منطقة مصر الجديدة تتقابل وتتقاطع بهدوء دون أن تتشارك الحديث أو المعرفة، وتبدو لغة الكاميرا بمنتهى الشفافية مصحوبة بموسيقى تتوارى أحيانا لسماع أغنية لفيروز أو لترانيم الكنيسة، تلتقط الصورة بذكاء تفاصيل صغيرة للغاية يراكمها الفيلم بهدوء وصبر بعيدا عن الانفعال والمبالغة بزاويا مدروسة، فكل لقطة تؤدي ما يريده منها مخرجها، ليست زائدة ولا مبهرجة لا تعتمد مفهوم الجميل والقبيح، بل بعدا ثالثا يضفي على القول والحركة مهمة نقل أكبر قدر ممكن من المشاعر والمرسلات بأقل قدر ممكن من الكلام، وهنا نرى الممثلين بكل ما تعنيه هذه الكلمة لا يحفلون بالاستعراض والمبالغة أو النجومية بل يجسدون ولا يتقمصون، يعبرون ضمن سياق فني متكامل وهنا بدون شك تتجلى قدرة هذا المخرج الشاب على توصيل وإدارة ما يريده لتقدم صورة هامسة تحفل بضجيج صامت يصل المتلقي بهدوء يحترم ذكائه وثقافته وأحاسيسه. البطولة للمكان والفعل للزمان يمكن أيجاز هذه المغامرة السينمائية (إذا صح التعبير) بأنها أعطت البطولة للمكان الذي نعي حجم تبدله وتغيره العميق بيوم واحد، تختفي ملامحه باختفاء قاطنيه، إحباطهم حدث ما فانشغلوا أما بالموت أو الطرد أو الفراروهذه فرضيات لا يريد الفيلم أن يساجل فيها، ومن هنا يدخل الفيلم حقل السينما بامتياز كفن يؤرشف المكان والزمان ولا يتوقف عند المتغيرات، فتغدو أحلام الممثلين بلا أفاق، تصطدم باليومي، بالهدر للوقت، بالانهزام التام أمام مجهول يأكل المدينة، وتاريخها وناسها، يجثم فوقها كقدر لا مناص منه. فعندما ينعدم المستقبل أو أي بصيص لتغير قادم، يصبح الماضي بكل بعده وأبعاده، حميم وأليف كمشتهى لنقيض الحاضر، وينكفئ الحلم ليصبح حنينا ويغدو العتيق رفيقا،ولكنه هذا الماضي الذي لم يصبح تراثا بعد، الماضي القريب، يقول إحد أصحاب المحلات للباحث الشاب (يوم كانوا الخواجات كانت مصر الجديدة أحلى، بتشبه اليوم المناطق التي يسكنها الأثرياء، ولكنها كانت مفتوحة للجميع وليس عليها حرس. وهنا رغم محاولة الفيلم الواضحة أن لا يحتوي مقولات كبرى، نجد أن خيطا فر من المخرج الذي كتب السيناريو أيضا، نجد إدانة مضمرة للفترة الناصرية، من خلال أحاديث الناس و(فيرا) ومداخلات الباحث الشاب وهو يوجه السائلين ليقولوا أن الثورة شتت الخواجات. زمن الفيلم يبدأ صباحا وينتهي فجرا اليوم التالي، على إيقاع صوت حبيبة التي تركته، لتتزوج وهي تحكي بلا هدف سوى هدف الحكي، ليطلع اليوم الجديد على القاهرة علهم ينجزون اليوم ما لم يقدروا على إنجازه البارحة ولكن ماذا عن غدا تقول الخطيبة بمرارة قارسة( راح اليوم يوم أخر بلا أنجاز لا شيء) وكأنها تلوم خطيبها، فيصيح بحالة غضب هي الوحيدة في كل الفيلم (هل انا مسؤول عن موكب الريس يالي عطل الدنيا) ثم يعود إلى هدوئه المريب يتلقى مخالفة ملتصقة على بلور سيارته، لا تذهب حتى بعد دعك كثير. فيلم يستمد قيمته وقوته وجماليته من كلمة واحدة هي (الصدق).. الصدق الفني العميق والمخلص لما يراد تقديمه. ’ كاتب من سورية يقيم في الاماراتFadiazzam2@gmail.com اضاءات ’ هليو’وليس باليونانية : تعني مدينة الشمس وقديما كانت تقع شرق القاهرة، سماها العرب ’عين شمس’. على مر العصور الفرعونية كانت مركز دينى مهم لإله الشمس ’اتوم أو رع - حور - اخنى’ حسب موقع اليكوبيديا. في الحوار الذي أعقب الفيلم: ’ قال المخرج أنه لم يتم حذف إي مشهد في رده على سؤال لأحد الصحافيين السؤال بدا غريبا لأن الفيلم لم يحتاج إلى أي تابو رقابي. وهنا ربما مصدر التساؤل فلا تعر ولا سياسية ولا دين في مقولات الفيلم ولكنه فيلم يمكن أن يكون دينيا عاطفيا سياسيا بامتياز. ’ قال أحد الصحافيين أنه خائف أن الناس لم تفهم الفيلم، رد المخرج الخوف يشل الحركة ولو بقينا خائفين لن ننتج شيئا. ’ خالد أبو النجا آمن بالسيناريو والمخرج وساهم في الإنتاج ووجد أن هذا الفيلم يمكن أن يكون بداية جديدة لحراك سينمائي مصري مختلف. ’ معظم المشاركين في العمل لم يسمعوا عن المخرج من قبل، ويوم ألتقوه وافقوا فورا على العمل حتى بأجور رمزية أو بدونها. ’ رغم أن شريف مندور مخرج إلا أنه أمن بإنتاج هذا الفيلم وبصاحبه وأعطاه الفرصة الكاملة بحرية ليقوم بعمله. ’ بعض المشاكل التقنية في الصوت والإضاءة نغّصت من جماليات هذا الفيلم وخاصة في الصوت فهو لم يضبط على إيقاع واحد وكان في بعض المشاهد يقترب من عدم الوضوح.أخيرا بانتظار هذا المخرج الواعد أحمد عبدالله أن لا يجعل من فيلمه بيضة الديك، ويؤكد عمق تجربته في أعمال أخرى.