من عاش هنا فقد عاش بالصدفة؛ فالأصل ربما التعرض للموت، أو الإصابة أو الاعتقال. ولا ندري كيف نصف من قتل، هل كان من العادي أو الصدفة؟ هو سؤال تراجيدي فعلا، لكن ما هو تراجيدية أكثر الإجابة!
لكل منا ما وهب في هذا المكان، وما وهبته الحرب من موت أو حياة محاذية له، على حرف، كأن شعرة تفصل عالم الموت والحياة.
لي، وأنا من هذه المكان، سرديتي، فقد تعرضت للموت جنينا، وأبا، حين كنت أتجنب الحاجز العسكري الذي كان يفصل بيتي عن عملي. إذن فقد بدأت يوميات الحرب قبل مولدنا، وما زالت؛ والمأساة أنها تستمر بتوارث..
كان يوماً حزيرانياً، الرابع منه، حين سمع أهل القرية عن اندلاع الحرب من المذياع؛ فراحت أختي الكبرى تنادي والدي، الذي كان يعمل منذ الفجر في كروم العنب تحضيرا لموسمه بعد شهرين. يصل الوالد ليجد الناس قد انطلقوا الى الجبال خوفاً، في حين راح آخرون ينتظرون إعلان الجيوش العربية للتوجه غربا نحو أجزاء الوطن المستلب قبل 19 عاماً للاحتفال بالنصر في يافا. لم تمرّ ساعات حتى بدأت الطائرات الإسرائيلية تحلق على ارتفاعات قليلة فوق قرى جبال القدس، تبث الذعر. بقي والدي مع جدتي أم يقين، ولم يقبل ترك البيت، حيث انه اختبر الحرب الأولى عام 1948، فما زال نادما على ترك بيته الثاني هناك في «سلبيت» قرب مدينة الرملة، فإلى أين سيمضي الآن؟
كان نصيب أسرتي مغارة «ام السخنة»، الأطفال سعيد ويسرى ونصار وناصر ومنصور ونعمة، ووالدتي، أما كاتب هذه الأسطر فكان في الشهر السادس في بطنها، وكاد ألا يتم الحمل، بل كادت ترحل أم الأطفال عندما وقع جزء من الصخر من المغارة عليها، لكن تتلطف الأقدار فتنجو الأم، وجنينها.
يبعث والدي قريبا لينادي على أسرتنا لتصعد الجبال للعودة الى القرية، حيث أن فضاء بيتنا وساحاته صار ملاذاً لأهالي القرى الغربية المحاذية لفلسطين عام 1948، (أو ما اصطلح إسرائيليا عليه بما يسمى بالخط الأخضر) فنحن اللاجئون عن ملاذ صار بيتنا ملاذاً.
في يوم ربيعيّ، ونحن نرعى شياهنا، هتف طفل لنا بأنه توجد هنا مغارة اسمها «أم السخنة»، كنت فتى شغوفا، وكنت قد سمعت روايات من الوالدة والأخوة والأخوات. تركنا شياهنا ترعى واتجهنا بسرعة، وصلنا وانتبهت لبابها شبه الدائريّ الضيّق، وقفت ببابها، فظهرت أمامي أمي الحامل بي، والأطفال والأسر، وأول ما فعلت هو النظر إلى أعلى المغارة، منبها الأطفال حتى لا تسقط صخرة أخرى علينا. اندفع أحدهم يبحث عن رصاص تبقى من الحرب.
في الطريق بين الجيب والرام على طريق القدس، لم تكن الطريق سالكة، بسبب انتشار جيش الاحتلال الجديد، حيث ما زال بعض المسلحين يطلقون النار بين الحين والآخر؛ ففي المكان معسكر أردني تم إجلاؤه، حين ذهب والدي وخالي عبد الله بأمي التي جاءها مخاض الولادة الى مستشفى «الأوغستا فكتوريا» أي المطلع، أخبرهم الحارس بأن قسم الولادة قد تم قصفه من القوات الغازية أثناء حرب الأيام الستة، قبل شهرين، وأنه لم يصلح بعد. لم تطل رحلة البحث، فهبطوا معا من ذلك المستشفى على رأس جبل الطور الى وادي الجوز، حيث مستشفى الهلال في القدس، وهناك أبصرت النور، في حين راحت والدتي في نوم عميق بعد طول ألم وتعب وآثار حرب. نلت رضا الممرضة ومحبتها كوني الطفل الهادئ الوحيد وسط أطفال يبكون.
سأسير هناك بعد 19 عاما مع زملاء الدراسة باحثا عن المستشفى لأعلم أنه تم نقل المستشفى لمنطقة «الصوانة» في طلوع جبل الطور، حيث بلدة الطور. ثم لأسير على درب السيد المسيح حين هبط الى القدس راكباً أتانه قادماً من صومه في أريحا، بعد حادثة التجربة على جبل قرنطل، حيث استقبله الأهالي بأغصان النخيل، فصار سبت النور مذكرا بهذا الحادث.
أمي، الثلاثينية وقتها، في صيف حرب عام 1967، تذكرت هي حرب عام 1948 حين كانت عروسا، وكيف تم طرد الفلاحين بقوة السلاح، تاركين البيادر ملأى بشمائل(جمع شمال) القمح والشعير وحبوب أخرى. أمي التي أورثتني مهارة السرد، روت لنا عن اللاجئين واللاجئات، من مدينتي الرملة واللد، وسأسمع فيما بعد شهادات مؤلمة، لربما فقط أستطيع ذكر بعضها، عن أقدام النساء اللواتي تنزّ دما من السير في الجبال بحثا عن ملاذ آمن.
وسيكبر الطفل بضع سنوات وهو يسمع عن تلك الحرب، التي ولد بعدها بشهرين، لم أكن وقتها أعرف أن نصف أهل قريتنا قد رحلوا خوفا الى شرق نهر الأردن، ومن بينهم أختي الكبرى، التي واريناها الثرى قبل شهرين، فلم أدر ونحن في مقبرة «شفا بدران» غرب العاصمة الأردنية، هل كنت أبكيها أم أبكي كل من قضى بعيداً عن بلاده.
فلسطين الحبيبة كيف أغفو وفي عينيَّ أطياف العذاب
فلسطين الحبيبة كيف أحيا بعيداً عن سهولك والهضاب
كنت عندما أصل هذا البيت أبكي وما زلت:
تناديني السفوح مخضبات وفي الآفاق آثار الخضاب
كان لدى الشاعر عبد الكريم الكرمي «أبو سلمى» أمل بالعودة، ولكن منذ أيار 1948، واللاجئون يموتون خارج بيوتهم، وبدلا من أن تكون حرب 1967 مخلصة، فقد ضاعفت أعداد اللاجئين، ومنهم أختي التي رافقت زوجها الى شرق الأردن، والتي لم تعد إلا زيارة قصيرة بعد اتفاقية أوسلو للسلام الذي لم يتم، فلم يكن ليبدأ أصلا ليتم.
غدا سنعود والأجيال تصغي الى وقع الخطى عند الإياب
كانت مشاعر حرب 1967 وذكرياتها، تظهر في أيام العيد، حيث يتذكر الباقون الذين رحلوا تاركين البيوت مهجورة إلا من أعشاش العصافير. كنت أفرح قليلا مع الأطفال، لكن لم نكن نحب العيد فعلا، فلم نكن قادرين على تفسير دموع الأهل، فحينما كان والدي يزور عمتي، لم أكن أرى التهنئة، كنا نضع نحن الأطفال علبة الحلوى جانباً، في حين يمسح والدي وعمتي دموعهما. سنعرف بعد سنوات السرّ؛ فقد استشهد ابن عمتي بعد الحرب حيث كان فدائيا إضافة إلى كونه طالبا في جامعة دمشق.
سنعيش تحت الاحتلال أطفالاً، ونرى مسيرات جنود الاحتلال الصامتين إلا من اللاسلكي «المخشير»، متعجبين كيف يتحدث الجنود من خلاله مع آخرين بعيدين لا نراهم بدون سلك! أصبح الجيش الذي لا يقهر يعاني من المقاومين، ومن عمليات الفدائيين، فشهدنا اعتقالات شباب من القرية، وظلت الاعتقالات مستمرة طوال عمري وأنا أودع الـ 55 عاما، لكن سيظل للاعتقالات الأولى وقعها خاصة لابن عمي ثم ابن خالتي، ثم استشهاد أحد الأقرباء في المعتقل في أول الثمانينيات.
سنبحث أطفالا عن أشعار محمود درويش وسميح القاسم، فلا نجد غير القليل، فننتقل الى القدس فهناك دواوين يمكن شراؤها، سنحب الشعر وحب الوطن. وفي كل عام سنتعرف على أسماء الكتاب والأدباء الذين كتبوا عن فلسطين ولفلسطين.
ويستمر حزيران...
Ytahseen2001@yahoo.com