كل هذا الزّحام..سما حسن

الخميس 21 يوليو 2022 06:44 م / بتوقيت القدس +2GMT



لا تعرف لماذا يرتبط الصيف بالخروج إلى شاطئ البحر مثلا، أو بالخروج من المنزل، وكيف لا تتخيل نفسك وأنت في البيت فوق فراشك الناعم البارد ومروحة صغيرة تدور فوق رأسك أو حولك، أليس هذا بكاف لكي تشعر بالانتعاش، بدلا من الخروج لكي يندس لحمك بين تلك التلال من اللحوم البشرية على الشاطئ أو المتنزهات أو حتى المواصلات العامة؟
راعني مشهد الناس المصطافين في احد الشواطئ الشهيرة في المنطقة، والازدحام الذي كان ولا يزال شديدا جعل من الصعب عليك كمشاهد للصورة من بعيد أن ترى البحر والشاطئ والماء وحتى الرمل والصدف والأمواج، فكل ما كنت تراه عبارة عن قدر كبير من تلك الآنية المخصصة لطهو اللحم في الولائم وتزدحم فيه الكتل البشرية مع الكثير من المرق والعرق.
لا تدري لماذا هذا الإصرار بأن الخروج إلى الشاطئ نجاة؟ قد كان ذلك ممكنا قبل نصف قرن من اليوم حين كنا نسمع تلك الأغاني التي تتغنى بشط الإسكندرية أو حتى بلطيم ورأس البر، ولكنك، اليوم، تسمع عن شاطئ مدينة الإسكندرية ولا تراه، وترى الزحام في كل شيء، وقس على ذلك في كل منطقة يخرج فيها الناس خلال إجازاتهم إلى البحر أو حتى البر لقضاء الوقت مع بعضهم والهروب من حر الصيف القائظ.
لولا وجود فاكهة الصيف لما أحببت فصل الصيف، هكذا علقت إحداهن بكل صدق وإخلاص عن ارتفاع درجات الحرارة واللزوجة والرطوبة وتلاصق اللحم البشري في كل مكان والروائح التي تنبعث من كل مكان مثيرة للتقزز على العكس من فصل الشتاء وذلك الهدوء الرومانسي الطيب الحنون الذي يطل من كل شيء حتى من الشوارع وحتى من جيوب المعاطف الصوفية والكوفيات الملفوفة حول الأعناق.
في المجمع السكني الذي أصبحت أعيش فيه طبقت نظرية مهمة وهي أن خروج كل السكان إلى شاطئ البحر يحول المكان إلى جنه بالفعل بدونهم، فها أنا ذا اقف في الشرفة واطل على الشارع الرئيس حيث تسرع السيارات المحملة بالكبار وأطفالهم وتتدلى أذرعهم وأمتعتهم من الشبابيك والحقائب الخلفية ويهرعون باتجاه البحر، وبعضهم يهرع باتجاه المتنزهات العامة، وفوجا بعد فوج عم الهدوء في المكان، لم اعد اسمع صوت أبواب تغلق وتفتح، ولا صراخ الصغار وعويلهم هم الذين يهوون البكاء في ساعة الظهيرة ولا حتى صوت الكبار الذين يتعاركون دون سبب، ولا الأجساد المتدلية بملابس بيضاء داخلية علوية من الشرفات، ولا حتى صوت الأجهزة الكهربائية التي تعمل بلا هوادة مثل الخلاطات المنزلية والمكيفات والمراوح وأجهزة تنظيف المفارش والأرضيات.
عم السكون والهدوء وبدأت استمتع بمعنى أن تكون في فصل الصيف بلا صخب، والضغط البشري قد تحول بكل عنفوانه نحو البحر مثلا، فلم أعد اسمع سوى صوت قطة يأتي من بعيد وغير ذلك فهناك الهدوء مع مروحة تدور في سقف الغرفة وأخرى على الجانب فوق الطاولة وهكذا كان كل شيء منعشا بلا شيء يلتصق بك ولا عيون تتابعك ولا تتطفل أو تدخل من قريب أو بعيد.
تكتشف بعد هذا العمر أن الخروج تحت المطر اجمل بكثير من الخروج من البيت في عز الحر وفي أيام الصيف القائظة، وكذبة الخروج للبحر تملأ صدرك بهواء رطب مزعج ومثير للحساسية والزحام لا يورثك إلا مزيدا من العصبية والتوتر، ورمل الشاطئ يلتصق بقدميك وساقيك وتحاول بكل صعوبة أن تتخلص من هذا الملمس الذي يضايقك كثيرا ولا تفلح، وتقرر أن تغسل قدميك وساقيك حين تعود إلى البيت وحين تكتشف انه اكثر برودة مما تتوقع، وتكتشف أن النظريات الثابتة ليست دائما صحيحة، فالبحر ليس مكانا وحيدا وفريدا للمصطافين، كان من الممكن أن يحدث ذلك مع ليلى مراد منذ اكثر من نصف قرن وحين غنت الكثير من أغانيها وحين كان الشاطئ شاطئا يستحق الوصف بفضائه الواسع ورمله الأصفر النظيف الخالي من النفايات ومخلفات التلال البشرية وقشر البطيخ.