حرب العملات: هبوط سعر اليورو.. أسباب وتداعيات..

السبت 16 يوليو 2022 01:26 م / بتوقيت القدس +2GMT



بقلم: د. جيهان إسماعيل:



اليوم نحن أمام نوع جديد من الحروب تسمى "حرب العملات"، هدفها الإطاحة بنوع من أنواع العملة المتداولة، وأصبح التلاعب بالعملات سلاحاً فعالاً تستخدمه الدول في الحروب الاقتصادية والتجارية وحتى السياسية.
يشير مصطلح حرب العملات إلى الحالة التي نرى فيها عدة دول تُخفّض قيمة عملاتها المحلية عن قصد؛ من أجل تحفيز اقتصادها على حساب دولة أخرى.
فانخفاض قيمة العملة (سواء كان عن قصد أم بغير قصد) أمر شائع في سوق الصرف الأجنبية، لكن ما يميز حرب العملات هو انخراط عدد كبير من الدول في محاولات لتخفيض قيمة عملاتها في نفس الوقت، ويتضمن تخفيض قيمة العملة اتخاذ إجراءات تضعف القوة الشرائية للعملة المحلية.
يرى المحللون ويعتقدون أن اليورو وصل إلى الحد الأدنى بعد وصوله إلى التكافؤ مع الدولار. أي يمكن استبدال دولار واحد بيورو واحد.
وصعّب هذا الهبوط لليورو الأمور على الشركات الأوروبية التي تحتاج إلى شراء الطاقة والمواد الخام، والمكونات المسعرة بالدولار، إذ تستمر تكلفة الواردات المتزايدة بتعزيز الأسعار في 19 دولة تستخدم اليورو، ليقفز معدل التضخم السنوي إلى مستوى قياسي بلغ 8.6٪ في حزيران الماضي.
لكن ما الذي أدى إلى عمليات البيع المكثفة لليورو، ثاني أكثر العملات استخداماً في العالم؟
يشير المحللون إلى عدة عوامل:
الأول هو النظرة الاقتصادية، فمخاوف الركود تتصاعد عالمياً. لكن قرب أوروبا من الحرب في أوكرانيا، واعتمادها التاريخي على روسيا لتلبية احتياجاتها من الطاقة، جعلاها أكثر عرضة للخطر من الولايات المتحدة.
فقد وصلت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا إلى أعلى مستوى لها منذ آذار. وقلصت روسيا تدفقات الغاز إلى أوروبا، ويخضع خط أنابيب نورد ستريم الرئيس الناقل للغاز للصيانة. ودخل عمال الطاقة في النرويج في إضراب، ما يهدد بمزيد من القيود على الإمداد. أي أن التضخم في أوروبا دفع المستثمرين للهروب للدولار؛ باعتباره وسيلة آمنة وملاذاً موثوقاً للحماية من التضخم.
ويقول لي جوردان روتشستر، المحلل الإستراتيجي: إن "لدينا أزمة شتوية قادمة في منطقة اليورو، وأتوقع أن تظل أسعار الطاقة قوية للغاية". أما دميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، فقال: "إن أعضاء الاتحاد الأوروبي أطلقوا النار على رؤوسهم بمسدس العقوبات الأوروبية ضد روسيا، والتي كانت لها تداعيات كبيرة على الاقتصاد الأوروبي؛ إذ ساهمت في ارتفاع مواد الطاقة. الآن يجنون الثمار المرة لتراجع وتضخم أسعار المواد الغذائية، وفقدان القدرة التنافسية لسلعهم، ويأتي ذلك في وقت ينتظرهم شتاء في مساكن جليدية دون غازنا".
ثانياً: يثير ضعف أداء اليورو، عندما تتراجع الرغبة في المخاطرة بين المستثمرين، قضية أخرى وهي التجارة. أبلغت ألمانيا للتوّ عن عجز تجاري شهري نادر، في إشارة إلى أن ارتفاع أسعار الطاقة يلقي بثقله على الشركات المصنعة في مركز التصدير في أوروبا. وبالتالي يصبح اليورو الأضعف ضرورياً لجعل صادرات الكتلة أكثر قدرة على المنافسة.
ثالثاً: رفع أسعار الفائدة، في الولايات المتحدة. وهذا يعني أن المستثمرين من المرجح أن يضعوا أموالهم في الولايات المتحدة، حيث يمكنهم تحقيق عوائد أفضل.
رابعاً: مع ارتفاع أسعار الفائدة، هناك مخاوف من أن أسواق السندات في البلدان ذات الديون العالية مثل إيطاليا واليونان يمكن أن تتعرض لضغوط. وقال البنك المركزي الأوروبي: إنه سيعمل على منع ما يشير إليه بـ"التجزئة"، لكنه يظل خطراً يراقبه التجار عن كثب.
رابعاً: ارتفاع أسعار الغاز، ومخاوف قطع روسيا لإمدادات الطاقة.
خامساً: ترك الاعتماد الكبير للاقتصادات الكبرى مثل ألمانيا وإيطاليا على الغاز الروسي.
وقال كيت جوكيس المحلل الإستراتيجي في بنك "سوسيتيه جنرال"، قبل أيام: إن العملاء "قلقون للغاية بشأن كل الأمور الأوروبية. تراجع بيانات التجارة الألمانية أمس بشكل سيئ، وانتشر الشعور بأن فائض الحساب الجاري يتعرض لضربة من أسعار الطاقة على نطاق واسع، أضف إلى ذلك المخاوف بشأن التجزئة والخوف من أن الاقتصاد العالمي يتجه جنوباً، ومن الصعب أن تشعر بالتفاؤل قليلاً".

تداعيات انهيار اليورو:
أولاً: كيف يؤثر اليورو الضعيف على المستهلك؟
من شأن انزلاق اليورو أن يزيد من العبء على الأسر والشركات الأوروبية التي تعاني بالفعل من التضخم المرتفع إلى مستويات قياسية. ومن شأن ضعف اليورو أن يجعل الواردات، التي هي في الغالب بالدولار، أكثر تكلفة. وعندما تكون هذه المواد المستوردة مواد خام أو سلعاً وسيطة، فإن تكاليفها المرتفعة يمكن أن تؤدي إلى زيادة ارتفاع الأسعار المحلية. وسيكون هناك حمل أكبر على الاقتصاد الأوروبي نتيجة لضعف اليورو.
في الأوقات العادية، ينظر إلى العملة الضعيفة على أنها فأل حسن للمصدرين والاقتصادات الثقيلة التصدير مثل ألمانيا، لأن انخفاض العملة سيعزز من الصادرات بسبب أنها أصبحت أرخص، بيد أن هذه ليست أوقاتاً طبيعية بفضل الاضطرابات التي تشهدها سلسلة التوريد العالمية والعقوبات والحرب في أوكرانيا.
ثانياً: ماذا يعني ضعف اليورو للبنك الأوروبي؟
اليورو الضعيف والتضخم من شأنهما أن يزيدا من التحديات التي يواجهها البنك المركزي الأوروبي، الذي يواجه بالفعل تحديات مالية كبيرة بسبب تباطؤه في مكافحة التضخم. وما زاد الطين بلّة بالنسبة للبنك، الذي يتمتع بصلاحيات لكبح جماح التضخم، أن اليورو لم يضعف فقط مقابل الدولار، ولكن أيضاً مقابل العملات الأخرى مثل الفرنك السويسري والين الياباني.
أما قدرته الشرائية للعائلات، فإنه يتم تحرير فواتير ما يقارب نصف المنتجات الواردة إلى منطقة اليورو بالدولار مقابل أقل من 40 بالمئة باليورو، وفق بيانات مكتب الإحصاءات الأوروبي. لهذا تكون هناك حاجه لمزيد من اليورو لشراء السلع المستوردة، وستتأثر السياحة الأوروبية بصورة واضحة خصوصاً في أميركا، بالمقابل سيستفيد السياح الأميركيون ودول أخرى من تبديل العملة.
ويتعلق ذلك على سبيل المثال بالعديد من المواد الأولية، مثل النفط والغاز، والتي ارتفعت أسعارها بالفعل في الأشهر الأخيرة على خلفية الحرب في أوكرانيا. لكن ستكون هناك حاجة لمزيد من اليورو لشراء السلع المستوردة بالدولار.
ثالثاً: تأثير انخفاض اليورو على الشركات
اعتماد الشركات على التجارة الخارجية والطاقة متفاوت. إذ يرى فيليب موتريسي، مدير الدراسات في مصرف "Bpifrance" العام، أن التكاليف سترتفع بشكل حاد بالنسبة للشركات التي تعتمد على المواد الخام والطاقة، والتي تصدر القليل، مثل شركات الحرفيين.
أما الرابح الأكبر من انخفاض اليورو فهي الصناعة التحويلية التي تصدر منتجاتها إلى الخارج، كصناعة الطائرات والسيارات والسلع الفاخرة والكيميائية.
رابعاً:على النمو والديون
من الناحية النظرية، يجعل انخفاض قيمة اليورو الأسعار أكثر قدرة على المنافسة خارج منطقة اليورو، الأمر الذي سيحفز تصدير السلع والخدمات الأوروبية إلى الخارج.
قد يخفف ذلك من نتائج تنامي ارتفاع أسعار المنتجات على خلفية  الحرب في أوكرانيا، لا سيما في البلدان التي يعتمد اقتصادها على الصادرات، مثل ألمانيا.
في معركة السيطرة على التضخم يتضح مما تقدم أن حرب العملات بدأت في أوروبا، وتوحي المؤشرات إلى بداية حرب عملات ربما تطال عملات أخرى غير اليورو، وأن هذه الحرب ستكون عنوان الأزمة القادمة.