مر شهر على غيابك، لكن بخلاف ما هي عليه سنن الحياة، فإن حضورك مع الغياب يزداد تألقا ، والحزن عليك يزداد تعمقا، والجرح يزداد اتساعا وألما، وحرقة القلب تزداد اشتعالا.
في أرض النور والانبياء، جاء غيابك مثل غياب الأنبياء، تغيب اجسادهم، أما أرواحهم فتنبعث نورا يعم وينتشر في كل ركن من البلاد، وفي قلب كل فرد من العباد.
الموت يا أختي التي لم تلدها أمي، حدث فردي، لكن غيابك كان حدثا جماعيا، حدثا هز الامة، وغير مفاهيمنا عن الحياة والموت، عن الحضور والغياب، عن البشر والملائكة.
نعم، فالبشر عند الله كما عند الناس، بما يتركون من إرث وأثر، وانت تركت فينا إرثا وأثرا لا يمحوه الزمن. إرث وأثر حي في نفوس وعقول وقلوب الناس، بكل ما فيه من ثراء إعلامي وإنساني وروحي ووطني وأخلاقي وقيمي وجمالي.
تعالي يا شقيقة الروح، كي أقص عليك ما حدث في غيابك:
اصيبت الأمة كلها بصدمة، وخرجت الى الشوارع يملأها الحزن والغضب.
منذ ثلاثين عاما، وأنا أعمل صحفيا ميدانيا، ولم يكن هناك خلال هذه العقود الثلاثة حدثا لم أكن شاهدا عليه، وباحثا ودارسا ومدققا في تفاصيله، واستطيع القول على رؤوس الاشهاد بانه لم يكن هناك حدثا وحد الشعب كما فعل غيابك. فنحن شعب ، كما قال شاعرنا الخالد محمود دويش، نختلف على كل شيء، حتى على ألوان العلم. لكننا لم نختلف عليك، فكنت لنا العلم الذي يوحدنا. العلم الذي نلتف حوله. العلم الذي بقي مرفوعا في سماء القدس، بأيدي بناتها وشبابها، ولم تسقطه هراوات الجلادين.
كنت يا ابنتنا الجمعية، حدثا وطنيا مثل القدس واحداثها التي لم تتوقف يوما. كنت مثل حي الشيخ جراح، سلوان وبيوتها الباقية في حضن السور العتيق.
كان رحيلك معركة مواجهة، مثل معارك باب العمود وبوابات الحرم الشريف، والحائط الغربي وباب الرحمة والمصلى المرواني.
كنت الباب الجديد وطرقاته التي سلكها الانبياء إلى كنيسة القيامة، الطرقات التي تملأها الحواجز العسكرية في سبت النور، في محاولة دائمة ودؤوبة لحجب النور عن المدينة واجيالها الجديدة.
كنت يا شيرين جنين ومخيمها المقاتل. كنت غزة ونزيفها الذي لا يتوقف. كنت نابلس واحلامها التي لا تنام. كنت الخليل وعنادها الاسطوري. كنت طوباس وجبالها القريبة من السماء. كنت حيفا وكرملها، يافا وبحرها، عكا وأسوارها. كنت أريحا وقمرها الذي لا يغيب.
في غيابك يا ابنة النور لم نعد كما كنا. فهناك فقد لا تعود بعده الحياة ابدا كما كانت.
تخبرني صديقة مشتركة، بأنها أصبحت، بعد رحيلك، اكثر احساسا بالموت. قالت: "صرت اكثر حزنا كلما رأيت جنازة، أو بيت عزاء، وكلما علمت برحيل انسان في هذا الكون.
صار الموت، مهما كان بعيدا عنا، قريب، بقدر ما كنت انت قريبة من كل انسان في هذه البلاد.
صار الموت يذكرنا بفداحة الفقدان. فداحة ما فقدناه بغيابك.
بعد رحيلك يا ابنة مريم تضاءلت قيمة الاشياء حولنا. لم نعد نرى شيئا يستحق التعب، فقد رحل من يستحق كل العناء والتعب. رحلت نجمة القدس التي لا تغيب.