على مدى أكثر من 10 سنوات، دفعت الظروف الاقتصادية السيئة الشاب مهدي شعبان من شمالي قطاع غزة، للعمل في مهنة حفر القبور وتجهيزها، التي تعلّم خباياها من والده.
العمل في هذه المهنة، لم يمنع شعبان من تحقيق طموحه الأكاديمي، بل جعل من حفر القبور رافعة للوصول إلى حلمه، حتى نال درجة الماجستير في اللغة العربية، كما قال لوكالة الأناضول.
شعبان (29 عاما) يعمل أيضا بشكل جزئي، في مهنة التدقيق اللغوي، وكان الدخل الذي يتلقاه من حفر القبور، يُعينه على دفع تكاليف دراسة الماجستير التي استمرت 4 سنوات، وأنهاها عام 2021.
لكنه تعثّر في نهاية المطاف، ولم يعد دخله يكفيه لتلبية احتياجات حياته الأساسية.
ويعجز شعبان حاليا عن تحرير شهادته الأكاديمية المحتجزة لدى الجامعة، بسبب عدم استكماله دفع الرسوم المستحقة عليه والبالغة نحو 770 دولارا، ويقول إنه من الصعب ادخار المبلغ المذكور من هذه المهنة المتعبة.
وخلال السنوات الماضية، لم يجد شعبان وظيفة في مجال تخصصه “التربية العربية والإسلامية” توفر له دخلا ثابتا.
ويعاني قطاع غزة الذي يعيش فيه أكثر من مليوني فلسطيني ظروفا اقتصادية ومعيشية صعبة، جراء الحصار الإسرائيلي الممتد لأكثر من 15 عاما، وتداعيات الانقسام الفلسطيني الداخلي.
وبحسب تقرير أصدره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي)، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، فإن نسبة البطالة في قطاع غزة بلغت 50 بالمئة.
مهنة موروثة
داخل مقبرة “الفالوجة” شمالي القطاع، يتوجّه شعبان لحفر قبر حجزته للتوّ إحدى العائلات.
بآلة الحفر اليدوية، يقضي شعبان أكثر من 3 ساعات لحفر هذا القبر وتنظيفه وإعداده كي يصبح قابلا لاحتضان جثمان إنسان.
وبعد الانتهاء من الحفر، انتقل إلى قبر آخر، كي يثبّت شاهِدَه.
كل هذه الأعمال تعلّمها شعبان من والده الذي زاول المهنة أكثر من 12 عاما، حيث كان يعمل قبلها في تكفين وغسل الموتى.
ويضيف شعبان: “لهذه المهنة التي عمل بها والدي، الفضل في إعالة أسرتي وتعليم أفرادها أكاديميا”.
ويزيد أن ممارسته المهنة “يأتي لرد جميل والده الذي عمل جاهدا لتوفير حياة جيدة له ولأشقّائه، في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها سكان القطاع”.
وفي السنوات الأخيرة، لم يعد الدخل العائد من المهنة يكفي لتوفير أساسيات الحياة، وذلك بسبب زيادة عدد العمّال في المقبرة.
ويستكمل قائلا: “أصبح الدخل يُقسّم على عدد من العمّال (..) لكنّ الحياة ميسورة”.
تدقيق لغوي
بعد أن أنهى شعبان عمله في المقبرة، توجّه إلى منزله كي ينفض غبار الحفر والتعب عن ملابسه ويأخذ قسطا من الراحة، قبل أن يبدأ بالتدقيق اللغوي لكتاب أدبيّ وصله قبل أيام.
ويعمل الشاب الفلسطيني في هذه المهنة التي تعلّم أسسها في الجامعة خلال مرحلتي البكالوريوس والماجستير.
ويشعر بالشغف لهذه المهنة التي نبعت أصلا عن حبّه الشديد لقراءة الكتب العربية والإمعان في تركيبات جملها.
ويقول: “لا أشعر بوجود أي تناقض بين المهنتين، فأنا أُجيد عمل أي منهما كما هو مطلوب تماما”.
ويوضح أن العمل بهذه المهنة غير منتظم، فقد تمرّ أشهر ولا يستلم شعبان أي كتاب أو بحث علمي للتدقيق اللغوي.
لذا لا يمكن له التعويل على هذا العمل في تلبية متطلبات حياته، إذ يعود عليه بدخل مالي ضعيف.
ويتابع: “أتقاضى عن الصفحة الواحدة في الكتاب شيكلا واحدا (الدولار يعادل 3.34 شواكل)، بينما أتقاضى عن كتاب فيه مثلا نحو 120 صفحة، حوالي 100 شيكل فقط”.
ويشير إلى مراعاته لأحوال الزبائن الاقتصادية الصعبة، بحيث يمتنع عن المغالاة في أجور التدقيق.
كما سبق أن قدّم شعبان، عددا من الدورات التدريبية لطلبة جامعة بغزة في مجال التدقيق اللغوي.
ويزيد: “في الدورات التي قدمتها تقاضيت مبالغ مالية رمزية كانت بالكاد تكفي بدل مواصلات”.
طموح وأحلام
يعاني شعبان اليوم كما يقول من تعثّر في دخله الذي يتقاضاه من حفر القبور والذي يصل إلى حوالي 20 شيكلا عن القبر الواحد.
هذا التعثر يعرقل مسيرته الأكاديمية ويمنعه من الحصول على شهادة الماجستير، حيث تشترط الجامعات على الطلاب دفع الرسوم المستحقة كي تمنحهم إياها.
كما يحرم الدخل المالي الضعيف الشاب شعبان من تحقيق طموحه في الحصول على درجة الدكتوراه في اللغة العربية، ومجال التدقيق.
ويقول: “أشعر كأنني طائر بأجنحة مقيّدة، جاهز للانطلاق لكنه يحتاج إلى مساعدة لفكّ هذا القيد”.
ويوضح أنه تلقّى عشرات الدورات التدريبية في مجال التدقيق اللغوي، والتنمية البشرية، واللغة الإنكليزية، إضافة إلى مشاركته بأوراق بحثية في مؤتمرات علمية، تجهيزا لملف التقدّم لدرجة الدكتوراه.
شعبان فقد فرصتين للحصول على منح دراسية لدرجة الدكتوراه، واحدة في تونس والثانية في روسيا، بسبب عدم حصوله على شهادة الماجستير الورقية المحتجزة لدى الجامعة.
ويشير أنه توجّه إلى مؤسسات معنية بشؤون الطلبة الجامعيين، من أجل مساعدته لفك شهادته المحتجزة، لكن دون جدوى.
ويقول إن واقع الطلبة في غزة صعب للغاية جراء الأوضاع الاقتصادية التي يمر بها القطاع، وتعوقهم أحيانا عن استكمال الدراسة ودفع الرسوم، أو تقيد طموحاتهم في الحصول على درجات علمية أعلى.