تداعيات في صحبة سارة التي ترى القدس أول مرة..تحسين يقين

السبت 16 أبريل 2022 01:15 م / بتوقيت القدس +2GMT
تداعيات في صحبة سارة التي ترى القدس أول مرة..تحسين يقين



نسير، وأسير في ذهني متذكراً طفولتي عندما تعانقت عيناي بالقدس المدينة التي نزورها من خلال حافلة تضم قرويي غرب القدس.
زهدت بقصصي القصيرة التي أرويها لسارة التي راحت تستجلي المكان عبر حواسها، فرحة من داخلها، جعلتها كأنها ترقص لا تمشي وتتجول.
كانت تجربة ابنتي سارة مختلفة في جهات الدخول، حيث كان علينا أولاً أن نتجه إلى غرب المدينة بمصاحبة الشاب الجميل حاتم الطحان دليلنا إلى مستشفى الجذام سابقاً وبيت خليل السكاكيني بناء على طلب الكاتب زياد خداش، وزوجتي الفنانة التشكيلية رانية العامودي وهناك اختبرت سارة مثلنا القدس الجديدة خارج البلدة القديمة التي تأسست بداية القرن العشرين، أي قبل قرن، وازدهرت في الثلاثينيات والأربعينيات، كما في البقعة والطالبية.
لا أدري، هي تجربة ومختبر أن نبدأ بالقدس الجديدة المحتلة عام 1948، شاهدت سارة الحداثة المدينية المتعددة من حيث الزمن، التي رأت فيها في جانب معاصر يحاكي أوروبا وأميركا، كما ترى في التلفزيون والسوشيال ميديا، لكن ثمة ما عكّر مزاجها من حيث هوية هذه المعاصرة المعمارية، لكن مزاجها تحسّن قليلاً حين دخلنا البقعة والطالبية والقطمون. فأثارها جداً أن القدس كانت متطورة بهذا الشكل قبل 73 عاماً.
في مستشفى الجذام، رحت أتساءل عن هذا المرض أولا، الذي يؤدي إلى تلف متزايد في الجلد والأعصاب والأطراف والعيون. تأسس المكان في القرن الثامن عشر، ثم صار مستشفى، وحين سقط غرب القدس، طرد الغزاة المرضى الفلسطينيين، مبقين على المرضى اليهود. المبنى الآن حديقة عامة في الخارج، أما قاعاته فهي موهوبة للفنانين والمثقفين! تحسسنا الغرف القديمة، التي كانت للنزلاء، فكم تحوي الغرف من حكايات ألم وأمل؟ ودهشت من رؤية معارض معاصرة هناك، حيث كانت عيوني تستجلي مكونات الجبال التي نحن منها ونألفها، من الأشجار حتى الزوزو أو قرن الغزال.
"تمحرشت" بالحارس، الذي لم يرفع نظره تجاهنا لا دخولاً ولا خروجاً، فرد بوجه محايد:
- بم يمكنني أن أفيدك؟
- لا شيء!
هو يرانا فقط في جانب محدد، لكن لا يرانا نحن الفلسطينيون القادمون إلى هنا كزائرين، حيث تمت برمجته ألا يرانا إلا عمالا أو ساطين على (الأمن)!
قصدت أن يجعله يرانا، من خلال التخاطب أولاً بكلمات عربية ثم باللغة الإنجليزية، لأؤكد له هويتنا التي هو أصلاً يعرفها، أردت التأثير على ما يراه، لكنه لا يرانا إلا عرباً أغياراً، أكنا من الضفة الغربية أو من أراضي العام 1948. إنه ضحية نظرة استعلائية إحلالية. فأي مرض أسوأ من مرض الجذام هو مرض العنصرية! إنه يؤدي إلى تلف متزايد في الجلد والأعصاب والأطراف والعيون..في القلب والعقول والشعور.
تهيبت ونحن نتجول مشيا للبحث عن بيت خليل السكاكيني في حي "القطمون" الراقي، حضر الزمان مرة واحدة، حضرت أزمنة خليل وكيف أنه حين ظن أنه سيستقر أخيراً في بيته الجديد، كان عليه أن يغادره، تاركاً أعز ما لديه: مكتبته. قلت لزياد خداش، الذي نشر مؤخراً نصاً صار هو جزءاً منه لأخفف من تهيبي:
- ابعث لأبي سري مسج، فقد وصلنا مبكرين.
- .........................................
وهناك، كان البيت كما تخيلته فعلاً، دخل زياد خداش إلى فنائه، فقد زاره من قبل، وهناك تلفت حولي لأرى كم تغير المشهد حول بيت خليل، المشهد متقارب لما كان من قبل.
حين انتبهت سيدة لنا ونحن ندخل البيت قرب مصف سيارتها، قلت لها: إننا نزور بيت معلمنا خليل السكاكيني، تمنت ونحن أن يسود السلام هنا وأخبرتني أنها من أجل المراجعة في مستشفى قريب.
أنضم إلى زياد المعلم والقاص وزوجتي الفنانة رانية العامودي وسارة. تحدث زياد مع مالك البيت التسعيني الذي يعرف اللغة العربية، فهو عراقي كردي، أخبرنا أنه اشترى البيت قبل 61 عاما. يرعى رفائيل ابنه الخمسيني، الذي يعرف العربية من خلال تعامله مع العمال الفلسطينيين، ولا شك أيضا من خلال أبيه.
كان خليل السكاكيني تربويا عميقا، وإنسانا يناهض العنصرية، تلك العنصرية التي سطت على بيته ووطنه، وعلى حداثة فلسطين التي أريد لها ألا تستمر. راؤول أو روفائيل الكهل هنا يقول لي: إنه في المستقبل سيعيش الجميع في بلد واحدة وسيتحدثون لغة واحدة. هل عرف ذلك بعد طول معايشته وهو أصلا من تعرض للتهجير من العراق من قبل الفعل الصهيوني؟ إنه مرض فعلاً تصعب مداواته.
على باب البيت، أتخيل الأستاذ السكاكيني يستقبلنا كأن شيئا لم يكن، لندخل في حديث تروي وثقافي، مرة كأننا في الأربعينيات مع مُجايليه من الكتاب مثل إسعاف النشاشيبي، ومرة نكاد نشعر أنه ما زال هنا فنتحدث عن زمننا المعاصر. كان تنقلنا بين عقود السنوات على ما يقارب القرن تنقلاً غريبا، لكن تزول الغرابة حين نتذكر معاً تلك العقلية العظيمة التي ما زالت تسبقنا حتى الآن، خاصة في أفكاره التربوية من خلال ما طبقه في المدرسة الدستورية التي ضمت طلبة وعلمين من مختلف الطوائف، والتي عمل فيها على أنسنة التعليم والاهتمام بالشغف بعيدا عن نظام الترغيب والترهيب، والذي أدخل فيها تعليم الرياضة والفنون.
بيت خليل من طابقين، لم نسع للطابق الثاني، بسبب عدم رغبة من حلوا فيه. قضينا وقتاً قصيراً في الطابق الأول، والذي كان بيت ابنه سري، حيث تخيلت البيت العامر بهذا الرقي الحديث الذي كان سائداً هنا.
قرأنا في وجه سارة بحثها عن البلدة القديمة في القدس، وخلال دقائق كنا وسارة أمام باب العامود، متأملة على الفور بهذا السور الكبير(سور للمدينة ليس للبيت فقط) والباب الكبير، فلم تر لا جنود الاحتلال في معلباتهم، ولا حتى الواقفين يفتشون المارة طالبين بطاقات الهوية. أسر باب العامود والسور العظيم مشاعر سارة، فتحركت برشاقة فرحة، حيث هبطنا الدرج، داخلين البلدة القديمة.
في كل خطوات سارة أراني أعود إلى طفولتي مقارناً بيني وبين سارة؛ فهي تدخل القدس بتصريح، وهي المغلقة علينا نحن جيران القدس في الجبال الغربية. القدس لسارة أمر معنوي، يتعانق فيه ما هو تاريخي وديني وثقافي ومعماري، في حين كانت عندي كطفل قروي مدينة عادية فيها أطعمة ومذاقات، حيث حتى الآن لا أنسى محل المخلل أول السوق. فيما بعد صارت المدينة عندي تعني كل شيء، مدينة جميلة وتاريخ معا وهوية.. طبعا ومذاقات وروائح. وربما ستصير لدى سارة القدس كل ذلك وأكثر.
سيصحبنا في البلدة القديمة الفنان المسرحي حسام أبو عيشة، الذي أضفى على التجوال حيوية وبهجة، سنفطر في أبو شكري الحمص الشهير حلو المذاق بكامل عدته.
يصحبنا أبو عيشة إلى بيت الحاج أمين مفتي القدس، حيث حارة البيارق نسبة إلى بيارق الجماعات الصوفية التي كانت تنطلق من هنا إلى مقام النبي موسى لإحياء الموسم الديني والثقافي الشعبي المعروف باسمه. ثم إلى مكان "العشاء الأخير"، ومقام النبي داود، فكل وله مقامه، وتلك قصة تطول. نزور حارة الأرمن، وتبدي سارة تهيبها من محدودية النور هنا. يقول حسام: إنه خلال الأسبوع يتجول مرتين أو ثلاث مرات، وإنه دوماً يجد جديداً. ومن هنا ندخل ساحة المسجد الأقصى، لتبتهج سارة فرحاً برؤية قبة الصخرة المذهبة، قائلة لي: "زي اللي في كتابنا".
نصلي العصر في مغارة المسجد، تلعب سارة وتتسلق الجوانب، فأتذكر طفولتي في رحلة مدرسية وعمري 8 سنوات. ثم لنهبط درجات مسجد القبة إلى المسجد الأقصى.. قلت لنفسي: سيكون لزيارة سارة للقدس أثر كبير عليها.
نهبط درجات سوق القطانين، ونصعد عبر شارع الواد، وصولاً لمستشفى الهوسبيس الذي تم إغلاقه من 36 عاما أو يزيد، هناك نشمئز من صراخ الجنود على أحد الشباب، وكيف راحوا يضربونه ويركلونه بقسوة، لم تمر غير دقيقة حتى رأيناه يدافع عن نفسه ويدفعهم عنه، مخترقاً جمعهم كمشهد سينمائي منطلقاً إلى الأمام صعوداً إلى باب العامود حيث اختفى فأشفى نفوسنا، تاركنا في تعظيم له، وتاركاً الجنود وجنود آخرين تم استدعاؤهم بسرعة البرق، في عارهم.
في نهاية النهار نسيت سارة سلوك جندي الحاجز حين لم يشأ السماح لها بالدخول ظاناً أنها فوق الـ 14 عاماً، حين طلبت مني العودة دامعة خشية أن تنهار بالبكاء، وخشية علي وأنا أجادل، بأن لها حق الدخول!
Ytahseen2001@yahoo.com