لم تكن حالة الجفاء بين تركيا وإسرائيل، معياراً لتقييم العلاقات بين البلدين، ولم تكن كذلك مؤشراً على سياسات تركيا تُجاه فلسطين، والأهم أن حالة الجفاء بين أنقرة وتل أبيب، تم استثمارها تُركياً لتمرير أهداف أنقرة في عموم العالم الإسلامي، لكن في العمق، يمكن القول بأن حالة الجفاء بينهما، هُندست وفق ما تقتضيه الضرورات الإستراتيجية، والأهم من هذا، بات واضحاً أن سنوات الجفاء الإثنا عشر بين أنقرة وتل أبيب، لم تكن سوى مسرحية سياسية. هي مسرحية أُقفلت فصولها حين حطَّت طائرة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، في أنقرة تلبية لدعوة نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، خاصة أن الأخير يحاول الارتكاز على إسرائيل، لمساعدته في ترميم واقعه في الداخل التركي، مع الاستفادة من ملف الطاقة، شرق البحر الأبيض المتوسط.
إذاً انتهاء فصول المسرحية التركية الإسرائيلية، لم تكن لرغبات تركية بمساعدة الفلسطينيين، ولم تكن أيضاً نتيجة السياسات التركية الفاشلة في عموم الإقليم. دليل ذلك، الإشارات الإيجابية التي أرسلتها أنقرة، قبيل زيارة إسحاق هرتسوغ إلى أنقرة، والتصريحات التركية التي أشارت إلى الرغبة بالتعاون في ملف الطاقة، وأن تركيا ما زالت الخيار الأمثل لنقل الغاز الإسرائيلي للتصدير نحو أوروبا، وفقًا لأكثر من تصريح للرئيس أردوغان في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط الماضيين، وقد أكد هذا المسعى تصريحات أخرى نُقلت عن وزير الخارجية، مولود تشاووش أوغلو، حول الترتيب لزيارتين له ولوزير الطاقة إلى إسرائيل مطلع أبريل/نيسان، بهدف إعادة تعيين السفراء، وبحث ملف غاز شرق المتوسط.
ضمن ما سبق، لابد من وضع الرغبات التركية في إطار المقاربات المنطقية، والتي تؤسس لإماطة اللثام عن حقيقة السياسات التركية تُجاه إسرائيل، وبناء على ذلك، يمكن قراءة الموقف التركي، ضمن الصُعد الداخلية والإقليمية والدولية.
على صعيد الداخل التركي، تشهد تركيا أزمة اقتصادية حادة، هي الأولى من نوعها، منذ تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة، وقد خسرت الليرة التركية أكثر من نصف قيمتها، ووصلت نسب التضخم إلى حدود 54%، كما تنتظر تركيا انتخابات حاسمة بعد عام، وترى أنقرة أن من شأن التقارب مع تل أبيب، والإعلان عن تقوية موقفها بخصوص غاز المتوسط إرسال إشارات إيجابية تسعف الاقتصاد من جهة، وتقوّي موقف الحزب الحاكم من جهة أخرى. لكن تركيا – أردوغان، تُدرك بأن العلاقة الجيدة مع إسرائيل، تُعد جواز سفر للتقرب من الإدارة الأميركية لاسيما في ظل التراجع النسبي في العلاقة مع إدارة جو بايدن.
أما على الصعيد الإقليمي، فإن إعادة التقارب مع إسرائيل، يأتي في إطار مراجعة للسياسة الخارجية التركية، والتي أسفرت خلال العام الأخير عن حوارات وزيارات متبادلة مع كل من الإمارات ومصر والسعودية. وكان لافتًا أن أنقرة حاولت أكثر من مرة استمالة الجانب المصري للتنسيق معها في شرق المتوسط عبر طرح رؤى لترسيم حدود بين البلدين، وعلى الرغم من أن تركيا طرحت على القاهرة صفقة أكثر سخاء مما وقّعته الأخيرة مع أثينا، عام 2020، إلا أن القاهرة لم تُبْدِ حتى الآن أية رغبة بالتوافق. وبالتالي فإن التوجهات التركية الحالية لجهة التقارب مع إسرائيل، تنطلق من رغبات أنقرة، بتوظيف العلاقة مع إسرائيل، واستثمارها في ملف متعددة وتحديداً في مجال الطاقة، خاصة بعد اتفاقيات التطبيع مع الإمارات، والإشارات الإيجابية بين الرياض وتل أبيب.
وعلى الصعيد الدولي، فإن تركيا شأنها كشأن باقي دول المنطقة، تأثرت كثيراً بارتفاع أسعار الطاقة إثر زيادة الطلب العام في الأسواق الآسيوية، وارتفاع الطلب عالميًّا بعد رفع إغلاقات كورونا، وجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا، لتزيد من ارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة منذ 2008، كما تجددت معها المخاوف الأوروبية من الاعتماد على الغاز الروسي والحاجة الماسَّة لتنويع مصادر الطاقة.
كل ما سبق جعل من اللحظة الآنية التوقيت الأكثر مناسبة لتقارب إسرائيلي/تركي لا تأمل أنقرة من خلاله بإعادة فتح السفارات فحسب، إنما يشمل تنسيقًا استراتيجيًا شاملًا بما في ذلك محاولة التأثير في توازنات شرق المتوسط، بطريقة تضمن ألا يبقى الغاز محبوسًا لسنوات أخرى في البحر.
في المحصلة، بات واضحاً أن النوايا التركية حيال إعادة التقارب مع إسرائيل، تنطلق من محددات تأمل بموجبها أنقرة بمساعدة إسرائيل، لكسر عزلة تركيا شرق المتوسط، وذلك عبر تفعيل نقاش خط أنابيب إسرائيل تركيا، الذي تراه أنقرة مسعفًا لاقتصادها واحتياجاتها المتنامية للطاقة، وفرصة لتعظيم قوتها الإقليمية بالتحول لمركز عبور للغاز، وورقة قوة في النزاع البحري مع اليونان وفي جزيرة قبرص.
وإن كانت توجهات السياسة الخارجية التركية تتأثر بالمحددات الاقتصادية، فإن إسرائيل تولي في المقابل، مسألة الأمن الاهتمام الأكبر، ولعل هذا ما يفسِّر تصدير تل أبيب لرئيسها، ذي المنصب الفخري، للقاء أردوغان، في حالة تعكس تحفظ إسرائيل. لذا، يبدو من المرجح أن تدفع تل أبيب نحو انتزاع المزيد من المكاسب من أنقرة، في سياق المطالبة بإثبات حسن النوايا، قبل التقدم بخطوات جدية في ما يتعلق بمشاريع الطاقة بين البلدين.
كاتب فلسطيني