المسكوت عنه في الأزمة الأوكرانية..عبد المنعم سعيد

الخميس 31 مارس 2022 02:52 م / بتوقيت القدس +2GMT
المسكوت عنه في الأزمة الأوكرانية..عبد المنعم سعيد



الأزمات الدولية بحكم التعريف فيها الكثير من المسكوت عنه وبقدر أكثر من الضجيج والتضليل، خاصة حول الدوافع والتحركات والأهداف، التي قد تختلط فيها دواعي «الأمن القومى» والضرورات «الجيو سياسية» مع طموحات شخصية وتقاليد في التوسع وتاريخ في العنف.
محاولة البحث عما هو حقيقي فيها الكثير من الصعوبة، خاصة عندما يجرى ذلك ولا تزال الرؤوس ساخنة، والدماء حارة، والعصر يلقي بطابعه على الحدث، بما فيه من سرعة وعالمية الاتصالات، وكلاهما فاق بمراحل ما عرفناه من حروب كبرى من حرب الخليج وحروب الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١ في أفغانستان والعراق.
تغير العالم كثيراً في كل شيء، من أول التسليح والتكنولوجيا في عمومها، والنظم السياسية، وحالة العالم؛ وربما لم يبقَ ثابتاً إلا الساسة، فلم يكن بوتين جديداً على الدنيا، ولا كان بايدن، ولا حتى زيلينسكي كان جديداً على السياسة ولا المسرح بالطبع.
المسكوت عنه أولاً ظل أصل الصراع، وهل كان حقاً إمكانية توسع حلف الأطلنطي إلى الحدود الأوكرانية الروسية، ولكن إذا كان ذلك كذلك فالحقيقة هي أن حلف الأطلنطي متوسع بالفعل وملتصق بالحدود الروسية في أكثر من منطقة، فمن ناحية- وانظر الخريطة- فإن دول البلطيق الثلاث- لاتفيا ولتوانيا وإستونيا- مجاورة لروسيا وبيلاروسيا، وجميعها مسلحة حتى الأسنان بأسلحة حلف الأطلنطي.
وهذا في أقصى الغرب الروسي، ولكن أقصى الشرق السيبيري حيث المحيط الهادي يواجه مباشرة اليابان، ذات معاهدة الدفاع مع الولايات المتحدة، والمماثلة لمعاهدة حلف الأطلنطي. والحقيقة هي أن روسيا تواجه تهديدات لأمنها القومي من داخلها، حيث يوجد أقوام غير مستقرين على العيش داخل الدولة الروسية مثل الشيشان والتتار.
.. خارج الحدود الروسية يوجد حزام من الجمهوريات التي لا تريد العودة إلى الاتحاد السوفيتي مرة أخرى، ولا تريد في نفس الوقت من روسيا الاتحادية أن تنظر إلى الأقليات الروسية في هذه الجمهوريات باعتبارها طابوراً خامساً أو حصان طروادة، الذي سوف يأتي بالاتحاد السوفيتي مرة أخرى.
وبغض النظر عن الاتجاه شبه الطبيعي لروسيا القيصرية أو الاتحاد السوفيتي إلى التوسع في الجوار شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً أيضاً في القطب الشمالي، فإن الحجم الهائل لروسيا في سقف أوراسيا يثير قلقاً طبيعياً لدى دول مثل أرمينيا والدول ذات الثقافة الإسلامية وحتى المسيحية غير الأرثوذكسية إزاء التهديد الروسي.
السؤال هو: هل يصير قلق روسيا إزاء حلف الأطلنطي قلقاً على كل أشكال التهديد الممكنة والمحتملة نتيجة الحجم الهائل للدولة الروسية، وتاريخها في التوسع الأرضي، الذي شمل في وقت من الأوقات شرق أوروبا وأفغانستان وكثيراً من المناطق التي كانت تابعة للعالم التركي العثماني؟.
المسكوت عنه ثانياً أن الصياغة الأميركية للأزمة والحرب على أنها «حرب بوتين» أو الصراع بين «الديمقراطية» و«السلطوية» فيها الكثير من التجاوز للواقع والوقائع التاريخية التي تلت انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي.
المرجح أن هذا التقسيم في حد ذاته ربما كان دافعاً من دوافع الحرب، حيث بدا نازعاً الشرعية عن نظم حكم قائمة؛ وهو لا يشمل في هذه الحالة ليس فقط روسيا، وإنما الصين أيضاً، ووفقاً للأرقام الحالية، غالبية دول العالم. اللقاء الافتراضي الأخير بين الرئيس بايدن والرئيس شي جين بينج، دار تحت عنوان: «جهود لإدارة المنافسة بين البلدين ومناقشة تأثيرات حرب روسيا ضد أوكرانيا على الأمن الإقليمي (أوروبا) والعالمي».
وخلال هذه المباحثات فإن الموقف الأميركي عاد به إلى «إعلان شنغهاي»، الذي أرسى دعائم العلاقات الأميركية الصينية قبل ٥٠ عاماً.
وأكد الرئيس بايدن أن العلاقات تصل الآن إلى لحظة حاسمة سوف تشكل العالم في القرن الواحد والعشرين؛ واستناداً إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تسعى إلى «حرب باردة جديدة» مع الصين، ولا تسعى إلى تغيير النظام في الصين. وتنشيط تحالفاتها لا يستهدف الصين. ولا تدعم الولايات المتحدة «استقلال تايوان»، وليست لدى واشنطن النية للسعي إلى صراع مع الصين.
مثل ذلك يمكنه أن يضع أساساً لحالة من الوفاق السياسي بين واشنطن وبكين؛ ولكن في الواقع فإن الإدارة الأميركية لا تكف عن مطاردة الصين، كما تفعل مع روسيا فيما يخص أموراً داخلية محضة بعضها يخص الأقليات وبعضها الآخر له علاقة بالمعارضة السياسية، وبالطبع التأكيد طوال الوقت على حقوق الإنسان.
ومن عجب أن الولايات المتحدة تدّعِى السعي لقيام نظام دولي قائم على قواعد؛ ولم يحدث في القول الأميركي استكماله إلى أن تكون هذه القواعد مستندة إلى القانون الدولي، الذي يمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
مثل إصرار أميركا، وهى التي لا تقبل بالمحكمة الجنائية الدولية، ولا حتى بالقواعد الدولية المستقرة منذ معاهدة ويستفاليا ١٦٤٨، على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول باعتبار أن ذلك سوف يكون دوماً مدعاة للتنازع والصراع، وطالما أن أهل مكة أدْرَى بشعابها، فإن الأمور الداخلية للدول هي جزء من تطورها التاريخي وإدارة الحكم فيها.
المسكوت عنه ثالثاً جرى التصريح به في منصات كثيرة ممتدة من الصحف وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، والخاص بحالة النفاق السياسي والازدواجية الأخلاقية والقانونية المتعلقة بغزو أوكرانيا مقارناً بغزو سورية وفلسطين وسابقاً العراق وأفغانستان وحالات أخرى كثيرة.
والحقيقة أنه كثيراً ما كان هذا الإفصاح يعني السكوت ومحاولة للهروب من تقييم الغزو الحالي من قِبَل روسيا الاتحادية لأوكرانيا، والذي يقود إلى أزمة دولية تمس معظم دول العالم بالضرر نتيجة ما ترتب على الحرب من أزمات الطاقة والغذاء وتحقيق المزيد من الاضطراب في سلاسل التوريد العالمية وتجاوز أزمة «كوفيد- ١٩» العميقة في كل دول العالم.
القضية الكبرى ربما، والتي دوّى السكوت بشأنها، هي أن الكثير من قضايا العالم الأخرى غرقت في بحر تركيز الانتباه الدولي على «حرب أوكرانيا»، فلم يعد الوباء على جدول الأعمال، رغم التنبيه المستمر إلى أن البلاء لم ينته، وأن البشرية بصدد مواجهة موجات جديدة منه.
صحيح أن هناك تراجعاً ملحوظاً في إصابات مرض الكورونا، ولكن الثابت هو أن كل متحول جديد في عائلة المرض يمهد لموجة واسعة أخرى. ولم تكن «الجائحة» وحدها التي ذهبت إلى ظلمات السكوت والتجاهل، وإنما بقية الأجندة العالمية المعروفة، من أول ظاهرة الاحتباس الحراري إلى الاتجاه الانتشاري فيما يتعلق بالأسلحة النووية؛ وباختصار كل القضايا الكونية المرتبطة بتسليح الفضاء والقطب الشمالي، والتراجع الكبير في حالة الاقتصاد الدولي.
كل هذه الحزمة الأخيرة من الموضوعات- التي جرى السكوت عنها أو تراجع الاهتمام بها- شكّلت حتى وقت قريب قائمة أعمال ظاهرة «العولمة»، وربما كان السكوت عنها راجعاً إلى نزعة التأكيد على الدولة القومية وهويتها واستقلالها عن الساحة الدولية. المعضلة في هذا هي أن النظام العالمي القائم على التفاعلات العميقة في الاقتصاد والقيم ومواجهة التحديات ربما يقود البشرية إلى مصير مظلم. ولعل ذلك هو المسكوت عنه الأعظم!.