قبل الحديث عن هذه الرواية، علينا أن ندرك أننا نتعرض لهجمة ساحقة ماحقة، تريد أن تجردنا من أي قيمة إنسانية وأخلاقية وتقتل موروثنا النضالي لنعيش حالة انكسار داخلي ونُجرد من أي قيمة فكرية ، حتى نحمل الراية البيضاء ونركض خلف عظمة، والسبب وراء ذلك يكمن في رؤية أولي الأمر، فهم لم يدركوا قيمة الإعلام الممنهج وسرد الرواية الفلسطينية بوعي وباستراتيجية واضحة المعالم لا تخضع للتأويلات، يعيشون وهم التحرر ونحن للأسف ما زلنا نقبع تحت منظومة الاحتلال الذي يتحكم بمصائرنا ومحاولاته المستميتة على نفخنا و إظهارنا على أننا قوة عسكرية، ليبيح جرائمه وينكّل بكل ما يطلق عليه فلسطينياً، لذا علينا أن ندرك الحقيقة جيداً ونعيش الواقع. ما نملكه من أدوات في غابة الحياة التي فرضت علينا... مجموعة قليلة من المبدعين المفكرين الذين يعتبرون البوصلة التي ستعيد قضيتنا للصدارة، لذا علينا أن نحافظ عليهم ونوفر لهم الأرض الخصبة لينطلقوا، بعيداً عن الفئوية والحزبية، فعسى أن يعيدوا للقضية زخمها. ففلسطين أكبر من الجميع، أكبر من الحزبية والفئوية. ولكي نتحرر من أمراض العصر علينا بالوعي ثم الوعي حتى نستطيع توجيه خطابنا الإعلامي للعالم إن كان مرئياً أو مسموعاً أو مقروءاً دون التقديس للأشخاص أو للأفكار المريضة، بعهر مسمى الديمقراطية، فنحن بشر نصيب ونخيب، كما يقول الروائي المتألق " طلال أبو شاويش" في صفحة رقم مئتين وسبعة، وحتى تكتمل الصورة وتُصبغ بألوانها الحقيقية، ودون أي تزييف أو تشويه، فلا بد من الحديث بشفافية عن الأخطاء التي ارتُكبت خلال هذه المرحلة. لم نكن ملائكة، البعض استغلَ سلطة القوة التي كنا نمتلكها، وارتكبوا بعض الأخطاء، وربما الخطايا. إذا أردنا توثيق هذه التجربة، فيجب ألا نُغفِل هذا، فمع مرور الزمن، تتضح بعض الأمور أكثر من السابق ويُصبح بالإمكان رؤيتها بصفاء أكبر.
رواية الهليون وثيقة وطنية إنسانية تنزف وجعا، وتجسد مرحلة نضالية دون تزييف وتتناول العديد من القضايا الشائكة، التي تعبّر عن معاناة الشعب الفلسطيني. تستحق هذه الروية أن تدرّس للأجيال فهي سيمفونية الحب والتضحية، نبع النضال، ترصد خبث الاحتلال وجرائمه البشعة في حق المقاومة. لقد تخيل المحتل للحظة أن الحقوق تسقط بالتقادم.
والمبدع الفنان " طلال أبو شاويش" عبّر عن رأي الشارع ببعض الكلمات على لسان الثائر “منصور" مخاطبا الضابط الإسرائيلي "يوشع بن ديفيد " ففي الصفحة التاسعة عشرة وبعيداً عن الهرطقات قال: " تفاهمات النُخب، لا تُغير التاريخ. يوماً سترى كيف أن كل ما يجري أمامك على السطح، ليس سوى أوهام. ومع أول شرارة سينفجر كل شيء في وجوه هؤلاء. ولكن حينها أرجو أن تتذكرني، لتوقن أنني لم أشخْ. ومازلتُ أرى الأمور بصورة جلية تماماً. من هنا سأنطلق للحديث عن صناعة أي منتج ثقافي. أولا: يحتاج إلى مقومات في البناء والمضمون ووعي في نسج الحكاية وثقافة ثم تحديد الخطاب الإعلامي وتشريح عناصر العمل والبحث عن لغة قريبة للقلب تترجم مشاعر الشخصيات. رواية "الهليون" تحمل فلسفة أخلاقية، أبهرني كاتبها بقدرته على التماهي مع شخصياته وسرد لغته بأصواتهم وثقافتهم. وأنت تقرأ الرواية ينهض من بين السطور القائد الوطني "منصور " الشخصية الثائرة الخلوقة ، لقد تعلمنا من صبره، معنى أن تكون إنسانا وتحب الوطن. نهض ليوثق مرحلة مهمة من تاريخ الحركة النضالية، فيقول في صفحة رقم ثلاثمائة وثمانية وعشرين وفي صفحة ثلاثمائة وتسعة وعشرين: " انتقلت للعمل في مركز للدراسات بعد أن أستقلت من وظيفتي الأولى في وكالة الغوث. كنت أحس بأن مكاني الطبيعي في مثل هذا المركز. وعدت إلى أوراقي، قرأتها من جديد بهدوء، وأعدتُ ترتيبها مرة أخرى. دعوت "شيبوب" لزيارتي في المركز. وتحدثنا في أمر الدراسة التوثيقية، وتباحثنا في بعض القضايا السرية التي ينبغي تجنب نشرها وتوثيقها بصورة خاصة ومنفردة." نحن أمام وثائق نضالية تؤرخ تجربة المقاومة وترصد جرائم الاحتلال بعد نكسة سبعة وستين، وعمليات الإعدامات المتتالية للمقاومة بعد اعتقالهم وأمام الجميع. وأنا أقرأ هذا الوجع، تساءلتُ: أين القيادة من هذا الملف؟! لماذا لم يثرْها لليوم على الأقل إعلامياً.. وهل تناسينا دماء أبنائنا؟
رواية "الهليون" أعطت المرأة الفلسطينية دورها الريادي في التجربة النضالية "فحياة" المقاومة والأم وزوجة الشهيد والأسيرة أم الطفل الرضيع الذي قضى ثلاث سنوات ونصفا في المعتقل، المرأة الصابرة الصامدة، وهي تعني الحياة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. جمال هذه الرواية أن صانعها بحثَ وتقصّى وجسّد وحدة المكان والزمان، استطاع أن يتقمص الشخصيات جيداً ويحكي بصوتهم ويراقب أدق التفاصيل، فهو دراس الشخصيات من الناحية السيكولوجية والفسيولوجية والسيسيولوجية وحاك سيناريو يعتمد على الإيقاع والتشويق من خلال المونتاج المتوازي السينمائي. ففي الخط الأول.. سرد لنا واقع المخيم شكلاً ومضموناً والتغيرات التي طرأت عليه، رسم صورة بصرية للمخيم، فنحن أمام مصور محترف وثّق ملامح المكان بالكلمات. ففي الصفحة سبعة وستين يقول: " تسللتُ من المنزل وصعدت إلى سطح الحمّام المسقوف بالصفيح، والذي أضيف حديثاً إلى المنزل. بدتْ أمامي الأسقف القرميدية لمنازل المخيم، كئيبة بائسة، لا تكاد توحي بوجود أناس أحياء تحتها، بدت لي مثل قبور متراصة. " كما وثق لنا تجربة المقاومة والعمليات البطولية والوسائل التي اعتمدت عليها والتي شارك بها كافة شرائح المجتمع صغيراً وكبيراً.. العامل والفلاح والمثقف. ورغم تهديدات عصابات الاحتلال إلا أنَّ المقاومة بقيت مستمرة وبزخمها. ففي صفحة واحد وسبعين يقول على لسان المحتل: " إذا علمنا بوجود سلاح مع أي أحد، سنقتله على الفور"، كما هدد الضابط قائلاً " بأنهم سيُعدون ساحات للإعدام. وسيكون هناك محاكم صورية. وسيجمعون الناس ليَنفذوا أحكام الإعدام أمامهم! " . فرغم وحشية الاحتلال وأساليب الترهيب إلا أن "أبو صالح البياري" قرر رغم إرهاب جنود الطغاة، أن يتطوع ليساعد المقاومة على إخفاء السلاح. ففي صفحة رقم خمسة وسبعين يقول أبو صالح: ""ولك اسمع يا مفعوص، هو فش وطني غيركم ولا كيف؟ أنا وغيري كتار، مستنيين حد يعمل إشي.. "وظل يحفر، حتى تيقن من أن هذه الحفرة واسعة، ثم قام بنبش تجويف جانبي وظل يحفر، حتى تيقن من أن هذه الحفرة الإضافية تكفي لاستيعاب الأسلحة. ثم راح يصفّها فوق القطعة البلاستيكية بعنايةِ فائقة. نحن أمام مشهد سينمائي مبني بعناية فائقة وبلغة عالية الجودة تعبر عن ثقافة وطبيعة الشخصيات، فشخصية " أبو صالح البياري" تدل على انتماء الفلسطيني لوطنه وإيمانه بحقوقه المسلوبة ومشاعره الجياشة لخدمة الوطن. كل شخصية في العمل تمتاز بالتعبير عن نفسها وطبيعتها باستقلالية تامة، فالحوار هنا إضافة مهمة للغة البصرية ويُكمل المشهد... أما في الخط الثاني الذي تناول من خلاله عصابات الاحتلال فقد استطاع الكاتب أن يتقمص شخصيتهم ويغوص في أعماقهم، ليسرد لنا ما يدور في مخيلتهم، فاكتشفنا اضطرابهم وخوفهم، فهم مجرد فزاعة هشة من الداخل، عشنا مع ضابط المخابرات الإسرائيلي "يوشع بن ديفيد " ابن المنتحل الشخصية الفلسطينية الملقب "بالهليون" والذي يفتخر بعملياته الإجرامية ضد الفلسطيني الأعزل، ففي صفحة رقم مئتين وستة وسبعين يقول " يوشع " : " حققت مع المئات من المعتقلين .انتزعت الاعترافات بطرق لا يعرفها الشيطان، الفكرة نفسها تستهويني، وأسعى دوما إلى إبداع طرق جديدة للوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الآلام ". كما عشنا مع الضابط " ديفيد هيلين" الملقب "بالهليون" المنتحل شخصية سعد، الابن الأكبر لأبو أسعد الجزار بعد أن سقطت العائلة شهداء أثناء النكبة. توغل هذا المحتل المجرم في عمق الشعب، كابن فقد أسرته وعاش يتابع مأساتهم ويشعلها أكثر وأكثر. فمن خلاله شاهدنا الحياة في مدينة يافا بعد النكبة، وعشنا الشتات في مخيم شاتيلا في لبنان، وعشنا حياة الفلاح وطيبته في قرية الزوايدة جنوب غزة، وعشنا الواقع المزرى في مخيم الشاطئ. ومن خلال عمله في نضح مراحيض المخيم والسماح له أن يتجول في البيوت بحرية، قرأنا الواقع المعيشي المأساوي لسكان المخيم. الرواية تحمل خصائص العمل السينمائي وتتميز بزخم المشاهد البصرية المبنية المعدة بمعالجة فنية تخطف القارئ وتجعله مشاركا في تقصي الحقائق، حيث اعتمد الروائي في سرده للوقائع على الكاميرا المتحركة التي تطوف وتبحر عبر الأزمنة وترصد وتوثق المرحلة وطبيعتها وتحكي بألسن أصحابها. وتنسج الحكايات وتمنح البطولة للمكان والزمان وللشخصيات، كما رصد الحياة في البيت، في الشارع وفي المقهى، وأبحر فينا في سيكولوجية المحتل. فالرواية تعج بمئات المشاهد السينمائية التي ابتكرها الروائي، وستبقى موسيقى للقارئ والمشاهد إن منحها أولو الأمر أن تظهر بصرياً. فنحن أمام رواية أعدتْ سينمائياً وحملت كل عناصر وتقنيات السينما وستكون مرجعا للأجيال. وسأختار على سبيل المثال مجموعة من المشاهد التي تلخص الفكرة، فعسى أن تبصر هذه الرواية النور وتتحول لفيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني وهي تحتمل كلا الطرفين، وسأبدأ بمشهد منصور القائد الوطني الأسير سابقاً الذي يعاني من مرض السرطان. نراه وهو يحتضر يسلم ملف الأوراق التي وثقها عن التجربة النضالية" لحياة"، رفيقة دربه في النضال لتنقلها للأجيال حيث يقول في صفحة واحد وثلاثين:" اعتدلتُ بخفة لا تتناسب مع حالتي الصحية. أردت أن أستغل وجود زوجتي في المطبخ. التقطت مظروفاَ كبيراً وناولته لها: احتفظي به في عينيك يا "حياة". يحمل هذا المشهد الكثير من المشاعر الإنسانية لقائد يودع الحياة ومازال يفكر بوطنه وشعبه. أما المشهد الثاني.. مشهد ظهور الضابط الإسرائيلي " ديفيد هيلين" ، المنتحل شخصية الشهيد سعد الجزار والملقب بالهليون. ما المقصود هنا بالهليون؟ الهليون من النباتات المعمَّرة التي تنتشر في المناطق القروية في فلسطين وتعتبر غذاء صحيا وعلاجا شعبيا لكثير من الأمراض، ومن طبيعة المحتل أن ينسب كل شيء لنفسه. ففي هذا المشهد يصور لنا الكاتب الوسائل القذرة التي يتبعها المحتل في غرس خنجرة المسموم في عمق الشعب الفلسطيني، الذي مازال يعيش صدمة النكبة والنكسة حيث يقول العم سالم في صفحة أربعة وثمانين: " ذات مساء، وبينما كنت جاثماً أمام " صخرة أدم"، انتبهت لتلك الكف الحانية وهي تربت على كتفي – عم سالم! لم أفزع لذلك الغريب الذي لم أتعرف على صوته، ولا على هيئته حين التفت إليه بلا مبالاة.. – قوم معي يا حج، الدنيا ليَلت والمنطقة خطيرة، وهدول ما بيوفروا حدا. سرت معه حتى وصلنا حي المنشية والتفتُّ إلى الرجل الغريب وسألته: - ابن مين أنت في المنشية - أنا ابن أبو أسعد الجزار، هل تعرفه؟ هززت رأسي، وتمتمت بحزن: لله يرحمه، راح هو وعيلته في البحر، قلتلهم ما تطلعوا، خلينا نموت هان. ثم نظرت إلى وجه رفيقي وتساءلت باستغراب: مين أنت من أولاده؟ -أنا سعد الكبير يا حج. كنت مع جنود الحامية، وأبوي الله يرحمه طلع قبل ما أرجع لعندهم وأشوفهم، كانوا بيفكروني متت مع أهلي. نحن أمام مشهد تأسيسي للخديعة التي أتبعها المحتل للقضاء على المقاومة، يحتوي المشهد على عناصر البناء السينمائي، وحدة الزمان والمكان والرسالة التي يقدم من خلالها شخصية "الهليون" وخطة الاحتلال لزرعه بين المجتمع الفلسطيني ووسائل تعزيز المعلومة التي يتبعها المحتل. والحوار البسيط الذي يحمل مضمونا عميقا ويساهم في تطوير المشهد ويعبر عن طبيعة الشخصيات. مشهد ثلاثة.. استطاع الروائي " طلال أبو شاويش" وسط الحرب والموت والتشريد أن يجسد لنا مشهدا عاطفيا، ينبع مشاعر إنسانية، فللعاطفة وللعشق الإنساني مساحة. فالمقاوم إنسان يحب، يبكي، يضحك، يغضب. ففي هذا المشهد يقرر المناضل سميح أن يفصح لرفيق دربه عن حبه "لحياة" وقراره الزواج منها. "حياة" التي تعني لرفيقه منصور كل شيء، فيغرق منصور في صراع داخلي ويتخذ قرارا سريعا ويكتم مشاعره وحبه لها ويضحّي بحلمه خوفاً على مشاعر رفيقه. حيث يقول في صفحة مائة وأربعة ومائة وخمسة: " كنت أدرك أن المهمة ليست سهلة، صوت خفيَ داخلي يهتف مستنكراً، وقوى خفية تحاول إسكاته. فالمشاعر الخاصة التي لم أبح يوماً بها قوية وعميقة. الانشغال الدائم بالهم الوطني، والمهام المتتالية، فرضت عليَّ تأجيل كل شيء، حتى الإفصاح عن مشاعري ولو في لحظةٍ عابرة. يجب أن توافق على الزواج منه. إن رفضت فحينها ستكون للمسألة تداعيات غير مرغوبة. سميح فاجأني، ودفع بي إلى حفرةٍ عميقة من التناقضات، موافقته على الزواج منه سيفكك كل هذا التعقيد . يتجلى هذا المشهد بمعنى الوفاء والتضحية والتمرد على الأنا والإيمان بأن هناك هدفا أسمى من الذات وهو الوطن. بعد زواج سميح من حياة يتم اعتقاله وإعدامه أمام الجميع.
فمشهد إعدام سميح أمام أهل المخيم من المشاهد المؤثرة إنسانياً والتي أبكتني أكثر من مرة، لاتسامها بصدق المشاعر وآلية البناء المتقنة والتي تعبر عن همجية الاحتلال وجرائمه البشعة، بحق الشعب الفلسطيني وتجردهم من أي أخلاق. اللغة السردية في تكوين هذا المشهد، لغة سينمائية تشد القارئ وتمنحه شحنات عاطفية حتى ينفجر بالبكاء، وكأنه يشاهد الحدث يتكرر أمامه. ففي صفحة مائة واثنين وأربعين يرسم الروائي سيناريو مرعبا لقوات الاحتلال وهي تقوم بإعدام سميح لترهب بجريمتها أهل المخيم.
"جروه بسيارة عسكرية عبر شوارع المخيم. وبعد أن طافوا فيها، تتابعه عيون النساء الباكية من ثقوب الأبواب والنوافذ، طلب منهم وهو يلفظ أنفاسه أن يودع أهله. تردد الضابط، وأجرى اتصالا عبر جهاز اللاسلكي بقائده، فسمح له بذلك. اقتادوه إلى قرية المغرقة، رأته أمه مهشم الرأس متورم الوجه، وقد فقد جميع أسنانه. لم يستطيع الحديث. ألقت بجسدها فوقه للحظات، ثم انتزعوها بقسوة، اصطحبوه نحو إحدى البيارات الغربية في المخيم. استند إلى إحدى الأشجار، أمروه أن يستدير لكنه رفض، فأمطره عدد من الجند بوابل من الرصاص. جروه جثة وألقوا بها أمام منزله وأمام أمه. ". لم تتوقف جرائم المحتل عند هذا الحد بل قاموا باعتقال زوجته وطفله الرضيع. ففي صفحة مائة وستة وستين. يكتمل مشهد القهر والظلم وهمجية المحتل.. وقد اخترت جزءا من المشهد المصوَّر بصرياً للمناضلة " حياة" لأضع القارئ في مضمون الحدث.. " سقط الرضيع على الصندوق المعدني، وبكى بكاء متواصلا، قيدوني وألقَوا بي تحت أقدامهم وانقلبت، حتى تمكنت من وضع صدري تحت جسده الطري فصرخ الجندي – اخرس يا كلب، بدك تصير "مخرب " زي أبوك! لم تواصل السيارات طريقها نحو مدينة غزة حيث السجن المركزي، استدارت يساراً نحو تجمع استيطاني صغير، كانوا قد بدؤوا بإنشائه منذ أسابيع. وأطلقوا عليه "نتساريم "! ألقوا بي من السيارة العسكرية على الأرض، فيما انتشل أحدهم الطفل الرضيع وانسل به نحو إحدى الغرف. جاء أحدهم وصب الماء على وجهي. استفقت وبصعوبة اعتدلت وراحت عيناي تأكلان المكان بحثاً عن طفلي. – ابني.. ابني، وين ابني؟ صرخت عدة مرات حتى لم يعد جسدي المنهك يحتمل آلامه، فأنهرت ورحت في غيبوبة.
رغم بشاعة الاحتلال وجبروته إلا أنه مهزوز من الداخل، وهذا ما أفصحت عنه الرواية. فنراه يعيش الخوف ويدرك أنه مجرد فقاعات، ستحرقها شمس الأحرار. لذا يعتمد على وسائل الخديعة لتنفيذ مآربه، وأكبر دليل مشهد "موشي ديان " ففي صفحة رقم مائة واثنين وخمسين، عندما قرر أن يزور قطاع غزة وخاصة مخيم البريج، قاموا بتوزيع عصابات سوداء على الجنود، تشبه تلك التي يضعها على عينه. وتم نشرهم بأكثر من سيارة للتمويه. لكن المقاومة كانت يقظة، كشفت خبثهم وتصدت لهم "واشتعلت إحدى السيارات العسكرية بالكامل، واحترق كل من فيها وهبط الجنود من السيارات الأخرى، وراحوا يُطلقون الرصاص في كل مكان". نحن أمام مسلسل من التحدي والمقاومة والجرائم التي لن تنتهي إلا مع انتهاء الاحتلال. ففي الصفحة مائة وأربعة وسبعين ومئتين وثمانية يجسد الروائي جريمة لا تُغتفر بحق الطفولة، فالاحتلال يعتقل رضيعاً ويعاقبه بالسجن بعد استشهاد والده وسجن أمه دون أي دليل يدينها. "رفضت المحكمة إطلاق سراح طفلي الرضيع، ليُمضي ثلاث سنوات ونصفا في المعتقل برفقتي! ترعرع الطفل خلال سنوات حياته الأولى بين جدران السجن، دون أن يعي شيئاً عن خارج السجن. كبر وهو يعتقد بأن العالم كله مجموعة من الأمهات وأربعة جدران وساحة صغيرة مغطاة بالأسلاك الشائكة وجنود مسلحون يجوبون الممر الصغير أمام الغرفة. وخطا الطفل بقدميه الصغيرتين على أكُف الأسيرات. تعلم المشي قبل أن يبلغ عامه الأول. وأرضعته بعض الأسيرات الأخريات. كان وجوده في غرفتهن يُخفف من وطأة السجن عليهن. فصاروا يُخرجونه إلى الممر الطويل أمام غُرَف السجن. يركض ويلهو ويصرخ. كان المعتقلون في الغرف المجاورة يتلقفونه عبر القضبان الحديدية ويتسابقون إلى احتضانه وتقبيله". فهذا المشهد فيلم بحد ذاته.. قضية يبنى عليها عشرات الأفلام التي تخاطب العالم ويكتمل المشهد بالمشهد الذي يليه. ففي صفحة مئتين وثلاثة عشر والذي يتناول فيه الروائي مشهد تحرر الطفل من المعتقل. " فُتحَت بوابة السجن الثقيلة، ليندفع إلى خارجها طفلي الصغير، وهو يحمل أشياء من صنع الأسيرات. تسَمر أمام الجمهرة التي حاول جنود الاحتلال ألا تكون كثيفة. كان عدد من الصحفيين يلتقطون الصور لنا دون أن يُدرك ما يجري. احتضنه جدّه أبو سميح وبكى بمرارة. لكنه حرص على ألا يترك لهم الفرصة للشماتة به. فمسح دموعه بمرفَقِهِ وراح يُلوح بشارة النصر". نحن شعب يستحق الحياة نتعالى فوق جراحنا ونؤمن أن القادم أفضل ولن ننسى شهداءنا، ومن طبيعة المرأة الفلسطينية الوفاء والتضحية، لذا رسم الروائي هذا المشهد. فأثناء خروجها من السجن هي وطفلها وقبل أن تصل إلى بيتها تقرر أن تتوجه للمقبرة لزيارة قبر زوجها سميح.. ففي صفحة مئتين وأربعة عشر تقول حياة: " استأذنت السائق أن يتوقف قرب المقبرة وسط المخيم. هبطت برفقة طفلي الذي راح يتأمل القبور مستغرباً. جَثَمت قُرب قبر زوجي للحظات، حبست دموعي وقرأت الفاتحة، ثم سرت شاردة نحو السيارة". نحن أمام مشاهد مترابطة، اعتمدت على الحركة، تم اختيار عناصرها بشكل إنساني ناضج وموثر يجسد الوفاء ويعبر عن الشعب الفلسطيني بما يستحقه. عندما تحدثت سابقاً عن الوعي والتخطيط قبل البناء واستيحاء الهدف المراد توصيله للمتلقي بذكاء وانسيابية من خلال الإيحاء وتفادي الخطاب المباشرة في التعبير عن الحدث، واختيار ملامح الشخصيات الخارجية والداخلية بعناية وتحريكها بخفة وكأنها خيوط بين أصابع الروائي أو كاتب السيناريو، ليتم تطور الحدث نتيجة المعطيات المعدة سلفاً، وحتى نصل للهدف ونمنح للقارئ مزيداً من المعرفة ونقدم له عكس التوقع، حتى يتلقى المضمون بشغف. فتغير القناعات للشخصية لا تأتي بشكل عشوائي وبدون تخطيط، بل بما يدور حولها نتيجة الأحداث المتراكمة التي تم صناعتها، لتأخذنا لمنحى أخر. هنا تتضح حرفية الروائي باختيار عناصره وفكرته، فالمبدع المفكر "طلال أبو شاويش" عندما قام بتوثيق حكاية "الهليون" في غزة بنى معالجته على الجانب النفسي لهذه الشخصية ". فالهليون ضابط المخابرات" فُرض عليه أن يعيش معاناة الشعب الفلسطيني ويتحسس طبيعة الشخصية الفلسطينية، وكيف يحبون بعضهم بعضاً، شَعر بكرمهم وعطائهم وترحيبهم بالضيف وإيمانهم المطلق بالتحرر وتضحياتهم المستميتة التي لا تخضع لحدود، أدرك أن الموت لا يرهبهم ويؤمنون أن فلسطين تستحق الكثير. فكمية الجرائم التي تعرضوا لها والتي كان هو من أسبابها الرئيسية، لم تثبط عزيمتهم، لم يتوانوا للحظة في أن يدافعوا عن وطنهم وأهلهم. لذا كان تطور شخصية الضابط الإسرائيلي المنتحل وتحطيمه ساعة التجسس التي ينقل من خلالها المعلومات، لم يكن صدفة بل نتج عن تراكمات بالأحداث، ساهمت بتغير اتجاهه، وهذا انتصار لقضيتنا العادلة. لو استطعنا أن نحرك فردا مؤثرا دخل الكيان وجعلناه يؤمن بقضيتنا، سنكون سلكنا طريق الصواب برسالتنا الإعلامية. فالقشة التي قصمت ظهر البعير في الرواية وفي شخصية الهليون، لحظة اقتحام جنود الاحتلال الإسرائيلي بيت زوجته وحبيبته "ليال" وضربها، ليكون التغيير وعكس المتوقع، فنراه يحطم ساعة التجسس التي يلبسها بيده وينقل من خلالها المعلومات لقائده، ليضعنا الروائي بعد ذلك أمام عدة تساؤلات، هل كان موته طبيعيا؟! أما تم تصفيته من قبل الموساد الإسرائيلي؟ ففي صفحة ثلاثمائة وثمانية عشر يقول الهليون:" رأيت آثار أصابعهم على خدها. تحسست وجهها بحزن كبير وتمتمت حانقاً: معلش ليال، بدنا نتحمل، لازم نصبر! قتلني الغيظ يومها. توجهت بسرعة نحو الشاطئ وهناك وأمام "الحاج سالم " ووسط استغراب أبنائه، خلعت ساعتي الفضية الضخمة ووضعتها على حجرِ صخري ضخم، وجئت بحجر آخر ورحت أحطّمها بانفعالٍ واضح، طحنتها تماماً. ونثرت بقاياها فوق البحر".
بعد قراءة رواية "الهليون".. أوجه رسالة لكل الكتاب، كل ما نحتاجه منكم الوعي ثم الوعي والمعرفة، حتى تتحفونا بهذا الجمال الذي بين أيدينا، وتساهموا بسرد روايتنا الفلسطينية بما تستحق. فالروائي " طلال أبو شاويش" تصرف بحكمة، حين قرر أن يتحدث عن علاقة جنسية بين المنتحل " الهليون " والغجرية "ليال" والذي تزوجها لاحقاً وبهذا حافظ على شخصية المرأة الفلسطينية المناضلة الثائرة النظيفة العفيفة. فيقول في صفحة مئتين وثلاثة وعشرين عندما تحدث عن جذور الغجر" قال: "لا أحد كان يعرف أصول هذه العائلات القليلة التي جاورت منطقة "الصفطاوي" شمال حي النصر. البعض يقول بأنهم من أصول مصرية، بينما ردد البعض بأنهم من أصول إيرانية، وآخرون أفادوا بأنهم قدموا من الهند أو من بعض دول آسيا الوسطى". تشعر بالبهجة وأنت تقرأ رواية لكاتب مثقف، درس كل خطواته بدقة ووضوح. ففي هذه الرواية مزج الواقع مع الخيال، تحدث عن حقائق مازالت موجود للآن ومنها الغرفة التي عاش ومات بها الهليون في مخيم الشاطئ وقد جسد مشهد موته بعبقرية ليقول إن المحتل والخائن، مجرد جيفة قذرة رائحتها كريهة. فعندما ذهبت "ليال" للبحث عن الهليون بعد غيابه ثلاثة أيام، طلب الحاج سالم من ابنه عبد الله وزوجة ابنه أن يرافقهما للبحث عنه، فذهبوا جميعاً إلى غرفته. ففي صفحة ثلاثمائة وخمسة وعشرين يقول: "ما إن فتح عبد الله الباب، بعد أن طرق مُطوّلاً دون أن يرد عليه أحد، حتى انبعثت رائحة نتنة ونفّاذة من داخل المنزل، زكمت أنوفهم فتراجعوا قليلاً إلى الخلف. اشتدت الرائحة عند باب الغرفة حتى لم يعد يحتملها، رفع قميصه وأغلق به أنفه، وتقدم نحو زاوية الباب ورآه! كان ممدداً على ظهره في فراشه بدون غطاء، وقد انتفخ بطنه كثيراً" .
الرواية مسرح للمَشاهد التي تستحق التركيز عليها، ومنها مشهد اعتقال شيبوب ومحاولة إعدامه، ولولا تدخل أخته وأبناء المخيم والاستعانة بالصليب الأحمر للقي حتفه. بصراحة وبدون مبالغة هناك الكثير من المشاهد التي تستثيرني، ولكن سأترك مساحة لمن يأتي بعدي ليكتشف هذا الكنز. وسأتوقف أمام مشهد الذروة الفنية والإبداعية والرسالة الموجهة التي تعبر عن رسالة الشعب الفلسطيني، مشهد النهاية والتحدي بين "منصور" الفدائي الثائر المصاب بمرض السرطان الذي يحتضر على حاجز بيت حانون " إيرز" قبل أن ينتقل للعلاج في الداخل المحتل وبين ضابط المخابرات الإسرائيلي "يوشع بن ديفيد " ابن الضابط " ديفيد هيلين" المنتحل شخصية الشهيد سعد الجزار الملقب بالهليون، حيث يحاول ضابط الاحتلال، أن يستغل مرض منصور ويبتزه للحصول على معلومات عن موت والده في غزة، لكن الفدائي قرر أن يموت كالنخيل واقفاً شامخاً، وهذه رسالة واضحة للأجيال القادمة أن الحرية تُنتزع انتزعاً ومن يفرّط بذرّة من حقه سيتنازل لاحقاً عن الكل. ففي صفحة رقم ثلاثمائة واثنين وثلاثين، يقول منصور بعد رفضه تقديم أي معلومة ليوشع: " ابتسمت في سرّي مغتبطاً، ثم حسمت أمري وحدقتُ في وجه يوشع وقلتُ بحِدة: - لا أعلم شيئاً عن القضية. هل لديك أسئلة أخرى؟ - هذا ما عندك؟ - نعم! أجبت بنبرة تحدٍ واضحة. ثم أغمضَتُ عيني، مستسلماً لنوبة ألمٍ حادة بدأت تجتاحني. أعادوا زوجتي إلى سيارة الإسعاف، وبعد لحظات، تقدم أحد الضباط نحوي وتحدّث إلىَّ بالعبرية التي أفهمها جيداً: – لدينا تعليمات بمنعك من الدخول للعلاج، ستعود الآن إلى غزة.
في ختام هذه القراءة أقول لأولي الأمر، أيُعقل أنَّ الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة لا يستحق أن نترجم معاناته لأعمال صادقة تعبر عنه بدل المسخ الذي نراه على الشاشات ويلصق به اسم فلسطين، نحن لا ينقصنا قدرات إبداعية من كتّاب ومخرجين ولكن ينقصنا قرار سياسي وقائد يدرك تأثير الصورة المرئية، فيا حسرتي.. نسير كالسلحفاء فكرياً وننتظر أن يموت المبدع لنتلوا عليه الفاتحة؟!!