تبدو واشنطن والقدس أقرب اليوم من التوصل إلى اتفاق حول تجميد إسرائيل بناءها الاستيطاني في الضفة الغربية مما كانتا عليه منذ سنوات طويلة. في الأسبوع الماضي، ألمح المبعوث الأمريكي جورج ميتشل إلى أن اتفاقا بهذا الشأن بدا وشيكا، وغالبية المراقبين يتوقعون أن يبدأ قريبا تعليق البناء الاستيطاني لفترة لا تقل عن تسعة أشهر. بل إن قرار الحكومة الإسرائيلية الأخير بالموافقة على بناء 455 وحدة سكنية قد يكون مؤشرا على أن اتفاقا وشيكا بات ممكنا وهي تريد أن تنجز عددا إضافيا من المباني الاستيطانية قبل بدء الموعد النهائي لتعليق هذه الأعمال. ومع ذلك، وفيما يقوم الطرفان بالتباحث حول التفاصيل النهائية لمثل هذا الاتفاق بشأن الضفة الغربية، فإنهما يبدوان متباعدين أكثر من أي وقت آخر بشأن موقع رئيسي مختلف عليه بينهما» القدس الشرقية. ذلك لأن إسرائيل تعتبر تلك المنطقة جزءا لا يتجزأ من البلاد تستطيع فيه البناء كما تريد، في حين أن الولايات المتحدة، وغالبية دول العالم، تعتبر هذه المنطقة أرضا محتلة مثل بقية الضفة الغربية، وبالتالي فهي خاضعة للتفاوض حول الدولة الفلسطينية المستقبلية. نير بركات، رئيس بلدية القدس منذ نوفمبر 2008، يقف في خضم هذا الخلاف. فمن بين مسؤوليات بركات الموافقة على تراخيص البناء الجديدة في كل أنحاء القدس. وهو ما يضعه في موقع فريد لتسهيل الأمور على ميتشل، أو تعقيدها. ولكن تعقيد أمور ميتشل هو ما يبدو أكثر احتمالا بصورة متزايدة في هذه الحالة. فرئيس البلدية، وهو رجل أعمال علماني يبلغ من العمر 49 عاما بنى ثروته بتطويره برمجية كمبيوتر لمكافحة الفيروسات، ليس زعيما شعبويا متحمسا. وكان بركات أمضى جزءا من طفولته في حُرم الجامعات بمدينتي باسادينا بولاية كاليفورنيا وإثيكا في ولاية نيويورك حيث كان والده أستاذا للفيزياء، ويصر على أنه يعرف تماما دواعي قلق واشنطن. ومع ذلك وبصفته عضوا في حزب الليكود المتشدد الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، فإن موقفه تجاه الاستيطان في العاصمة القديمة لإسرائيل هو موقف لا تنازل فيه. وقال رئيس البلدية في مقابلة الأسبوع الماضي إن "القدس خارج هذه المفاوضات بالكامل". بالنسبة إلى بركات، هذا ببساطة هو ما يجب أن تكون عليه الأمور. ويقول رئيس البلدية إنه ينبغي أن يكون اليهود قادرين على البناء في جميع أرجاء المدينة، بغض النظر عما يعتقد المجتمع الدولي. وهو يعارض الحدود التي اقترحها كلنتون ــ أي مقترحات الرئيس الأمريكي السابق والتي تنص على تقسيم أحياء القدس اليهودية والعربية بين إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية ــ بل وأيد عمليات الهدم المثيرة للخلاف للمنازل العربية، كما أيد مشاريع البناء اليهودية في القدس الشرقية التي شجبها المسؤولون الأمريكيون. وبالنسبة إلى بركات، فإن الدولة الفلسطينية لا تمثل بداية معقولة لاتفاق، على الأقل في الأمد المنظور، ويصر على أن البناء اليهودي في المدينة سيتواصل ما دام في منصبه. وقال الأسبوع الماضي: "لن نقوم بتجميد البناء". مثل هذا الخطاب جعل بركات، الذي كان فاز برئاسة البلدية بأغلبية بلغت نسبتها 53 بالمائة، شخصية مثيرة للخلاف والجدل بصورة متزايدة في الوطن والخارج وبين اليهود كما والعرب أيضا. يساريو إسرائيل يبدون حائرين قليلا تجاه رئيس البلدية. فمثلهم، يعتبر بركات علمانيا، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لهذه المدينة المتزايدة تدينا. وكان ذلك قد ساعد بركات في البداية على كسب بعض المعجبين في أوساط أعضاء النخبة المسنين في المدينة الذين يشعرون أنهم يخسرون المدينة لمصلحة المتدينين الأرثوذكس المتشددين. ولكن الكثير من اليساريين يعتقدون الآن أن ثقتهم به لم تكن في مكانها. ليست هناك أرقام رسمية تشير إلى أن البناء اليهودي في المدينة قد تزايد خلال عهد بركات، ولكن مؤيدي حركة السلام يعتقدون أن هذه لن تكون سوى مسألة وقت. ويقول هاغيت أوفران، من حركة السلام الآن، وهي جماعة دعوية يسارية: "لقد تحول إلى خطر حقيقي لاستقرار القدس". وتذمر داني سيدمان، وهو ناشط في ميدان حقوق الإنسان بإسرائيل وخبير في شؤون القدس، من أن هذا يمثل تهديدا استراتيجيا للمصالح الحيوية للولايات المتحدة "فهو يقوم بالعمل لحساب المنظمات الاستيطانية الأكثر تطرفا". ويبدو موقف رئيس البلدية غير القابل للتنازل، جزئيا على الأقل، نتاج تاريخه هو بالذات. فقد كان أجداد بركات قد هاجروا إلى إسرائيل في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي من بولندا وروسيا. وهو يستذكر أن أقرباءه الذين ظلوا في تلك البلدان "تم محوهم بالكامل، لقد ذبحوا وقتلوا في وسط أوروبا قبل أقل من 100 عام". مثل هذه الذكريات تساعد على تفسير معارضته لحل الدولتين للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني اليوم. وهو يقول إن "المحرقة لن تحدث لنا ثانية لنا هنا في إسرائيل. أعرف لماذا علينا ألا نتفاوض [للتفريط في] أمننا". كان بركات قد أمضى حياته حين كان في العشرينات محاولا بناء عمل تجاري في عالم الأعمال لحسابه. خلال الثمانينات من القرن من الماضي، عمل مع والدة زوجته في بيع ألعاب السيراميك في القدس القديمة فيما كان ملتحقا بالجامعة لدراسة إدارة الأعمال. ثم تمكن بركات ومجموعة من أصدقائه من التوصل إلى اختراق علمي كبير، إذ تمكنوا من إنتاج أول برامج مكافحة الفيروسات الكمبيوترية في العالم. وبسرعة، بدأت شركتهم التي أقاموها في مرآب السيارات في منزل من منازل أحدهم تعقد الصفقات مع شركات برمجيات كمبيوترية أمريكية كبيرة مثل «سيمانتك» و«نورتون». ثم حول بركات بعدها استثمارا صغيرا كان وضعه في شركة "تشيك بوينت سوفتوير" للبرمجيات الإسرائيلية التي كانت تحقق الكثير من الأرباح إلى وظيفة رئيس لتلك الشركة لأربع سنوات. وبعدها تمكن من جمع ثروة كبيرة من عمله كرأسمالي مغامر استثمر أمواله في أعمال تجارية إسرائيلية ودولية أخرى. كرئيس للبلدية، حاول بركات أن يطرح نفسه كما لو كان بروس وين الإسرائيلي، المليونير الشاب، العصري المخلص لإنقاذ مدينته. (بل هو يرتدي ثيابه كما لو كان شخصية باتمان، فهو يفضل البدلات الرسمية الداكنة السواد والقمصان الداكنة وربطات العنق الزرقاء). وفي عدة أيام من الأسبوع يقوم بركات بالذهاب إلى مكتبه في البلدية ركضا، وهو يقوم بذلك في بعض الأحيان حاملا كاميرا يدوية صغيرة لتصوير الأشياء التي تزعجه في المدينة: الزبالة الملقاة في ركن أحد الشوارع، أو سيارة متوقفة بصورة غير قانونية في أحد الشوارع. أحد أبطاله هو رئيس بلدية نيويورك السابق رودي جولياني، الذي يقول بركات إنه تعلم منه أن "التفاصيل مهمة". ويقول إن "نهج رئيس بلدية نيويورك السابق الجريء جدا" في مكافحة الجريمة يجتذبه أيضا. ولكن القدس ليست نيويورك. فالأساليب المتنمرة التي استعملها جولياني لتدجين مانهاتن تنطوي على إمكانية إطلاق شرارة حريق هائل في المنطقة بأسرها في مكان كالقدس، التي تعتبر مدينة مقدسة لليهودية والمسيحية والإسلام. فالمدينة المقدسة وجبل الهيكل والحرم الشريف، بصورة خاصة، تتأرجح بصورة دائمة على حافة العنف» فقد كان ذلك هو المكان الذي انطلقت منه الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر عام 2000 بعد قيام آرييل شارون، الذي أصبح بعدها بفترة قصيرة رئيسا لوزراء إسرائيل، بزيارة تلك البقعة مع حاشيته. ويريد بركات اجتذاب عدد أكبر من السياح إلى القدس عبر خطط متعددة، بما في ذلك تطوير الأراضي حول مدينة داوود القديمة، الواقعة إلى الجنوب من المدينة القديمة، وتحويلها إلى متنزه توراتي. ومع ذلك وفي هذا المكان الذي يتم التنازع فيه حول كل إنش من الأرض فيه، فإن هذه الخطة أيضا أثبتت أنها مثيرة للجدل: فمنتقدو بركات في اليسار يصرون على أن هذا المخطط هو مخطط غير مخفي تماما لتهويد المنطقة. رئيس البلدية يقول إن مشروعه سيكون عملا تجاريا ليس إلا. ولكنه يلمح إلى حافز أعمق حين يعترف بأنه قلق إزاء تزايد عدد سكان المدينة العرب بصورة أكبر من تزايد عدد اليهود فيها. ويقول: "علي أن أحافظ على توازن القدس والإبقاء عليها يهودية كعاصمة يهودية في العالم". وفيما تدفع إدارة الرئيس أوباما إلى اتفاق سلام شامل وفيما يعمل ميتشل جاهدا على دفع الإسرائيليين والفلسطينيين إلى مائدة المفاوضات هذا الخريف، فإن هذه ليست اللغة التي يريد أن يسمعها مبعوث سلام الشرق الأوسط، أو أي مسؤول آخر في البيت الأبيض.