سلط موقع "ميدل إيست آي" البريطاني الضوء على تنامي المقاومة الفلسطينية المسلحة في مخيم جنين شمال الضفة الغربية المحتلة، حتى أصبحت تؤرق الاحتلال الإسرائيلي، والسلطة الفلسطينية على حد سواء.
وقال الموقع في تقرير له ؛ إن حالة من التوتر سادت المخيم مؤخرا نجمت عن حملة التفتيش المشتركة التي نفتها إسرائيل والسلطة الفلسطينية؛ بحثا عما يتراوح ما بين خمسة وعشرين وثلاثين شابا، متهمين بالضلوع في أعمال مقاومة ضد الجنود الإسرائيليين.
وتشتمل تلك الأعمال على إطلاق النار عند نقطة تفتيش قريبة من جنين داخل الضفة الغربية المحتلة، والمشاركة في اشتباك مسلح مع الجيش في أثناء مداهمات نفذها داخل المدينة، والوجود الملحوظ للمسلحين داخل المخيم، وخاصة منذ انتفاضة أيار/ مايو العام الماضي.
وتحدث موقع ميدل إيست آي مع ثلاثة من الرجال المطلوبين داخل مخيم جنين، وكلهم أعضاء في سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي.
ويأتي على رأس قائمة المطلوبين سلمان "اسم مستعار"، وينحدر من جنين نفسها، وهو في أوائل العشرينيات من العمر. يقول سلمان؛ إنه لم يغادر المخيم منذ أن داهمت وحدة من القوات الخاصة الإسرائيلية مقر عمله على مشارف المدينة بحثا عنه في العام الماضي.
تلقى اتصالا هاتفيا من الشين بيت، جهاز المخابرات الإسرائيلية الداخلي قبل ستة شهور يهددونه فيه بإلقاء القبض عليه ويأمرونه بتسليم نفسه لهم.
يقول سلمان: "يعلم الشين بيت أنني لن أسلم نفسي وأنني لن أستسلم. كما أنني لن أمنحهم الفرصة لإلقاء القبض علي، ولهذا فقد حصرت نفسي داخل المخيم ولم أغادره منذ ذلك الوقت".
يتحصن الرجال المسلحون مثل سلمان داخل المخيم، بينما تتكثف جهود السلطة الفلسطينية وإسرائيل لمطاردتهم وإلقاء القبض عليهم. في هذه الأثناء يتزايد الإحباط من السلطة الفلسطينية التي يتهمها أهل المخيم باستخدام القوة المفرطة وسوء المعاملة لإحكام قبضتها على المخيم وإبقائه تحت السيطرة.
يبلغ حجم مخيم جنين، الذي يقع في قلب المدينة الواقعة في المنطقة الشمالية من الضفة الغربية، نصف كيلومتر مربع، ويقطن فيه ما يقرب من ثلاثة عشر ألف لاجئ.
أقيم المخيم لإيواء الفلسطينيين الذين طردوا من قراهم عام 1948 على أيدي المليشيات الصهيونية في أثناء النكبة، وهي الحرب التي مهدت الطريق لإقامة إسرائيل، ونجم عنها إجلاء ما يزيد عن 750 ألف فلسطيني من سكان البلاد الأصليين عنوة من ديارهم.
وفي أكثر من مناسبة، عند تصاعد التوترات، كان الرجال المسلحون الملثمون في ثيابهم السوداء يشاهدون وهم يجوبون شوارع المخيم، في مسيرات يشارك فيها عناصر من مختلف الفصائل، بما في ذلك فتح وحماس والجهاد الإسلامي.
غدا ظهور هؤلاء الشباب ملحوظا بعد أن تمكن ستة من السجناء الفلسطينيين، كلهم ينحدرون من جنين، من الهرب من سجن جلبوعة الإسرائيلي الخاضع للحراسة المشددة في شهر أيلول/سبتمبر، بمن في ذلك زكريا الزبيدي، الشخصية المقاومة الشهيرة.
سارع المقاتلون المسلحون داخل المخيم إلى التعبير عن استعدادهم لمساعدة السجناء الفارين، وقام بعضهم بإطلاق النار قريبا من نقطة تفتيش إسرائيلية، بينما نظم آخرون مسيرات مسلحة تعهدوا خلالها بالانتقام فيما لو وقع شيء للرجال الستة.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال سلمان: "كمقاتلين في المقاومة، كنا على استعداد للموت في سبيل حماية السجناء الستة وتوفير الملاذ الآمن لهم، إلا أن الظروف قادتهم إلى مكان آخر"
منذ ذلك الوقت لم تعد الأمور كما كانت عليه في جنين، فقد زادت وتيرة التحريض الإسرائيلي ضد المخيم كما يقول سلمان، الذي يرى في ذلك مؤشرا على وجود مخططات لاستهداف المخيم تارة أخرى.
وأضاف: "بدأت إسرائيل تكرر وصفها للمخيم على أنه عش الدبابير، بينما وصفت السلطة الفلسطينية المقاومة داخل المخيم بالفوضى والفلتان، ولا شيء أكثر من خارجين على القانون. كل هذا الخطاب المقصود منه هو مطاردة وتصيد المقاتلين داخل المخيم وقتلهم".
يرى المقاتلون من مثل سلمان أنفسهم امتدادا للمقاتلين الذين دافعوا عن المخيم في أثناء معركة عام 2002، وهم يرون أن المداهمات الإسرائيلية للمخيم، التي زادت وتيرتها بشكل كبير خلال العام الماضي، تتجاوز خطا أحمر وينبغي الرد عليها.
في شهر حزيران/ يونيو، اندلعت معركة مسلحة بين الجيش والمسلحين المحليين، مما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص بمن في ذلك جميل العموري، عضو سرايا القدس، وضابطان في السلطة الفلسطينية. ثم وقع هجوم عنيف آخر في شهر آب/أغسطس، أفضى إلى اندلاع صدامات قتل خلالها الجيش الإسرائيلي أربعة فلسطينيين.
باسل وتامر (أسماء مستعارة) في العشرينيات من العمر، وهما أيضا ضمن قائمة المطلوبين إسرائيليا منذ وقت طويل.
لم يزالا منذ عشرة شهور ضمن قائمة من اثني عشر رجلا مطلوبا، كما يقولان. تشتمل القائمة على العموري الذي قتله الجيش الإسرائيلي في حزيران/يونيو.
لا يكفان عن التنقل، ولا يمكثان في نفس البيت أكثر من مرة واحدة. والآن، أكثر من أي وقت مضى، تتطلب تحركاتهما درجة أكبر من السرية، كما يقولان.
وفي تصريح لموقع ميدل إيست آي قال باسل: "ترحب بنا كثير من العائلات داخل المخيم، ويدعوننا للمبيت في بيوتهم، ولكننا نخشى على سلامتهم ولا نريد أن نعرض حياتهم للخطر".
في أواخر شهر كانون الأول/ ديسمبر، قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آفيف كوتشافي في مقابلة مع القناة 12؛ إن إسرائيل كانت على وشك شن عملية واسعة النطاق في جنين قبل ثلاثة أشهر، ولكنهم استدعوا السلطة الفلسطينية للعمل.
وقال كوتشافي؛ إن إسرائيل "شجعت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية من خلال التنسيق الأمني المنتظم، فكانت قوات السلطة الفلسطينية هي التي تدخل إلى جنين لتصادر الأسلحة وتلقي القبض على الكثير من النشطاء".
وبالفعل نفذت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية عمليات قمع أمنية خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، وشملت إجراءاتها إلقاء القبض على عدد من سكان المخيم والتحرش بآخرين وتوجيه التهديدات والاستدعاءات. وكل هذا زاد من سخط سكان المخيم ومحافظة جنين تجاه السلطة الفلسطينية.
إلا أن المقاتلين، مثل باسل، مازالوا مطاردين، وهذا ما يعزز الاعتقاد لديه بأن اجتياحا إسرائيليا كبيرا بات وشيكا، بالنظر إلى إخفاق السلطة الفلسطينية في فرض السيطرة على المخيم حتى الآن.
أما تامر، الذي كان جالسا إلى جانب باسل وسلاحه في حضنه، فيصر على أن معركتهم ليست السلطة الفلسطينية.
وقال تامر، الذي أمضى عدة سنوات داخل سجن إسرائيلي: "تريد السلطة الفلسطينية دفعنا نحو الاشتباك مع عناصرها وإطلاق النار عليهم، ولكن تظل بوصلة أسلحتنا موجهة نحو الاحتلال، وليس ضد أي جهة أخرى".
تتزايد الضغوط على الرجال، مثل تامر، لتسليم أسلحتهم، ولكنه يقول إنه لا يثق بأن حياتهم لن تكون في خطر، أو أنهم لن يتعرضوا للتعذيب فيما لو تعاونوا مع قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.
وأخبر الرجلان موقع ميدل إيست آي أن الأسلحة التي يحملها المقاتلون، وهي في الأغلب بنادق هجومية خفيفة الوزن، تم الحصول عليها بأموالهم الشخصية، وهذا سبب آخر يجعل من فكرة التخلي عن أسلحتهم أمرا مستحيلا بالنسبة لهم.
وقال باسل: "لقد عملت بكد لعام ونصف حتى أتمكن من شراء سلاحي. وهذه الأسلحة تستخدم للدفاع عن المخيم ولن تسقط من أيدينا".
تصر السلطة الفلسطينية على أن الحملة الأمنية في جنين لا تستهدف مقاتلي المقاومة الذين يشتبكون مع إسرائيل، وإنما تهدف إلى كبح "البلطجية" الذين ينشطون خارج نطاق القانون.
وفي تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال بسام السعدي، أحد الشخصيات القيادية في حركة الجهاد الإسلامي في جنين: "تستخدم إسرائيل السلطة الفلسطينية لإخماد المقاومة في جنين، وهي تستهدف إحداث صراع داخلي وسفكا للدماء، كما تستهدف أيضا نزع الشرعية عن السلطة الفلسطينية في أعين شعبها، وهي الحقيقة التي ينبغي على قيادة السلطة الفلسطينية الانتباه إليها".
وحتى الفصائل داخل فتح، الحزب الحاكم فعليا في السلطة الفلسطينية، تعارض المقاربة الأمنية للسلطة.
ارتفعت وتيرة السخط ضد السلطة الفلسطينية في تشرين الثاني/نوفمبر، بعد أن أثارت جنازة حاشدة لزعيم حماس وصفي قبها، الذي توفي بسبب تداعيات الإصابة بفيروس كورونا، حفيظة السلطة في رام الله.
بدا كما لو أن إعادة تشكيل في صفوف الأجهزة الأمنية أفضى إلى قمع المشاركين في الجنازة، وخاصة أولئك الذين جاؤوا مسلحين.
يقول سلمان: "وضعت المخابرات الفلسطينية قائمة بأسماء عشرين من سكان المخيم، اثنان منهما من القصر. وكل هؤلاء مطلوبون أيضا من قبل الجيش الإسرائيلي، كانت تلك لحظة محورية في مطاردة المقاومة، وأدت إلى إثارة التوترات بين المخيم والسلطة الفلسطينية".
كان محمد عزمي حسينية واحدا من أولئك الذين ألقي القبض عليهم خلال الحملة.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال شقيقه إياد حسينية، بينما كان واقفا بجانب بسطته في سوق الخضار في جنين حيث يعمل؛ إن محمدا ألقي القبض عليه بحجة أنه تلقى مكالمة هاتفية من زعيم حماس إسماعيل هنية.
وكان هنية قد اتصل هاتفيا بمحمد في شهر تشرين الأول/أكتوبر، ليعزيه بوفاة ابن شقيقه أمجد حسينية في أثناء المداهمة التي وقعت في آب/أغسطس.
تم نقل محمد البالغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاما من مقر القوات الأمنية في جنين إلى سجن جنيد في نابلس، ثم إلى مقر المخابرات في رام الله حيث تعرض لتحقيق مكثف على مدى أربعين يوما.
وقال إياد؛ إن شقيقه فرض عليه الجلوس في أوضاع مجهدة للغاية، وعلق بالسلاسل لخمسة وعشرين يوما في أثناء التحقيقات.
وأضاف: "كل التهم الموجهة لمحمد تتعلق بمقاومة جيش الاحتلال، بالإضافة إلى تلقي مكالمة هاتفية من إسماعيل هنية... ولم يعترف محمد بأي من هذه التهم".
عربي 21