التين والزيتون...سما حسن

الخميس 20 يناير 2022 10:32 ص / بتوقيت القدس +2GMT



لم نفكر مرةً - وليتنا فعلنا ولربما وقتها كنا قلدناهم- لم نفكر بالسر، ولأن لا سر سوى أنها الفطرة، تخيل أنك لا تعرف أن فيتاميناً معيناً يحتاج فيتاميناً آخر كي يستفيد منه جسمك، ولكن الفطرة أو لأنك طيب وبسيط فقد قررت ان تضع كل صباح أمامك طبقاً من زيت الزيتون وتغمس فيه حبة من التين المجفف ليكون ذلك إفطارك.
لا تعرف سوى انك طيب وقلبك أبيض مثل السحابة التي أفرغت حمولتها من ماء المطر ومضت لتركض خلف أخرى معبقة بالماء الغزير، لا تعرف ولكنك رغم ذلك تستمتع بصحتك وقوتك حتى آخر لحظة من عمرك، فلا آلام مفاصل، ولا وهن، ولا ضعف نظر ولا أعراض اكتئاب موسمي ولا حتى أرق خلال الليل، فأنت تنام كقط وديع حتى يأتي من يوقظك وينبهك لمرور ليل الشتاء الطويل.
أثبت الطب الحديث أن زيت الزيتون يحتوي على فيتامين "ك" وقلة منا سمعوا عن هذا الفيتامين، فكلنا نحفظ الفيتامينات التي تعلمناها في المدرسة ومنها فيتامين د وقيمته للعظام والأسنان، ولكن أحداً منا لم يعرف أن فيتامين د لكي يصل إلى الدم فهو بحاجة لوسيلة مواصلات وهي فيتامين ك، وهو المتوفر في زيت الزيتون، ولذلك يطل عليك طبيب شاب من بلاد الإفرنجة وعبر قناته الخاصة لينصحك بأن تتناول ملعقة من زيت الزيتون البكر قبل أن تحصل على جرعتك اليومية من فيتامين د.
هكذا كان الأجداد الطيبون البسطاء يفعلون، وبكل بساطة وبدون وصفة من طبيب شاب يمشط شعره جيداً ويحافظ على وسامته، فهم يحتفظون بجرار الزيتون، ويجففون التين حتى يصبح " قطيناً" ويخزنونه على شكل حبال طويلة مثل السلاسل، ويتناولونه في أيام البرد القارس فتقوى عظامهم وتشتد مناعة أجسامهم.
مر بي عمر طويل حتى أكملت عامي الخمسين حين اكتشفت سر الأوجاع التي تتنقل في عضلاتي وهو نقص فيتامين د الحاد، وبدأت ألهث خلف التحاليل المخبرية والمكملات الغذائية والوصفات والأغذية التي يتوافر فيها هذا العنصر، وأصبحت أتذكر وصفة جدي وجدتي لأبي خصوصاً، وقد كانا يعيشان منعمين في بيتهما، فأولادهما في بلاد الخليج وحيث يضخون عليهما المال الوفير اعترافاً بفضلهما، كما أن أبي لم يكن ينسى شيئاً يحبانه إلا ويبتاعه لهما ويقدمه لهما ونحن نتضاحك عن حب هذين العجوزين للقطين.
مر بي عمر طويل حتى عرفت ان الفطرة تغلب الطب، وان العادات أحياناً تكون مفيدة ومجدية وان الطقوس القديمة تفيد في كل وقت، وأن إفطار الأجداد يتفوق على إفطارنا الذي نتفنن في تقليل قيمته، وربما نكتفي بكوب كبير من القهوة مع قطعة من الكعك، وهكذا نبدأ يومنا بلا طاقة أو قوة.
وهكذا ومتأخراً أفكر وأسرح كيف كان الالهام الرباني لهؤلاء الطيبين، كيف عاشوا بلا أدوية ولا أطباء، فتوفي جدي بعد شيخوخة صالحة لم يصل فيها طبيباً ولم يقتلع ضرساً، وكان من العيب في نظر جدتي ان تنكشف على طبيب، ولم تنته حياتها الطويلة إلا بشيخوخة صالحة أيضاً، وربما بأمراض عادية تصيب من هم في سنها، واليوم نتلفت حولنا فنجد الشباب يشكون قبل كبار السن، والأطفال في مرض دائم، ونسمع كل يوم عن مرض غريب ونادر يداهم الصغار قبل الكبار ويفجع الأمهات والآباء.
مر بي عمر طويل ولم ادرك قيمة حبة القطين التي كانت تمد بها جدتي يدها المرتعشة المتغضنة الحبيبة الغائبة والتي كانت تقدم لي أغلى ما في جعبتها، وأغلى ما ادخرته لحفيدتها ولكني كنت ارفض في إصرار، وان أصرت فكنت أضعها في فمي ثم الفظها خلسة، واليوم ابتاع حبات من القطين بثمن مرتفع لأنه اصبح مثل العملة النادرة، ولقلة المقبلين عليه فهو يباع غالياً، مثل الدواء. ولكن شتان بينهما... والف شتان.