منحت القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، منذ التسعينيات، أفضلية واضحة لاستخدام سلاح الجو في العمليات العسكرية والحروب على استخدام قوات برية، وتحول سلاح الجو إلى عنصر مركزي جدا في القوة العسكرية الإسرائيلية.
وعبرت إسرائيل خلال حرب لبنان الثانية، في العام 2006، بشكل واضح للغاية عن تفضيل القوة الجوية. إلا أن شكل إدارة هذه الحرب ونتائجها أثارت "خيبة أمل" وسجالا عاصفا، لا يزال جاريا، حول المفهوم الإسرائيلي للقتال ومكانة القوة الجوية في إطاره، وفقا لكتاب صدر الأسبوع الحالي عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل ابيب، بعنوان "مِن تفوّق جويّ إلى ضربة متعددة الأبعاد – استخدام القوة الجوية ومكانها في مفهوم إسرائيل للحرب الشاملة"، وهو بحث أعده نائب رئيس المعهد السابق، إيتاي بْرون.
واستمرت إسرائيل بمنح أفضلية للقوة الجوية بعد هذه الحرب. واعتبر قائد سلاح الجو الإسرائيلي السابق، عميكام نوركين، في مقال نشره في العام 2020، أن استناد إسرائيل إلى "ضربات متواصلة"، يهدف بالأساس إلى تحقيق "استهداف سريع وكبير لقدرات وفاعلية عمليات العدو، من أجل إرغامه على الموافقة على إنهاء سريع للحرب. وذلك، بواسطة استهداف سريع ومفاجئ لقدراته الأساسية".
وبحسب نوركين، فإنه "بعد عدة ضربات، سيتطلّع العدو إلى إنهاء القتال من أجل تعرّضه لأضرار أخرى، أو إثر إدراكه لعدم قدرته على تحقيق غاياته وإستراتيجيته".
ورأى برون في بحثه أنه وفقا للتوجُّه الذي قدمه نوركين، فإن "القوة الجوية تحولت إلى العنصر المركزي لشكل الحرب التي ينبغي أن تدور بالأساس بواسطة نيران من الجو وجمع معلومات استخباراتية دقيقة". ولفت إلى أن "هذا التوجه مناقض للمفهوم الذي كان سائدا في العقود الأولى بعد قيام دولة إسرائيل والجيش الإسرائيلي، الذي بموجبه القوة الجوية، هي عامل هام جدا وعنصر مركز في الردع الإسرائيلي، لكن دورها الأساسي في الحرب هو الدفاع عن سماء الدولة (مجالها الجويّ) والمساعدة في مجهود الحسم العسكري بقيادة القوات البرية التي تنفّذ اجتياحا".
وأشار البحث إلى أن التوجُّه الذي وصفه نوركين، بدأ يتطور في سلاح الجو وهيئة الأركان العامة في تسعينيات القرن الماضي، وبات واضحا في العقد الأول من القرن الحالي، وتمّ التعبير عنه أكثر فعليا في العقد الماضي.
وأضاف البحث أن الأفضلية الواضحة جدا للقوة الجوية، في العقود الأخيرة، ليست ظاهرة إسرائيلية خاصة، "لكن نظرة مقارنة تدل على أن الحالة الإسرائيلية متطرفة للغاية".
ونوه البحث إلى أن تفضيل القوة الجوية في المفهوم الإسرائيلي للحرب الشاملة على مر السنين، هو "نتيجة تغيّرات اجتماعية وسياسية داخلية، وتطورات تكنولوجية وتحولات في مميزات الحرب وطبيعة الأعداء الذين تواجههم إسرائيل. لكن بالإمكان رصد جذور ذلك في المكانة الخاصة التي منحها الآباء المؤسسون لمفهوم الأمن الإسرائيلي لسلاح الجو".
وتابع أن "القيادة السياسية الإسرائيلية شخّصت منذ بداية الطريق، القدرات الخاصة للقوة الجوية وأهميتها، وواظبت على تفضيلها، ورصدت لبنائها مواردَ كثيرة على مدار الفترة الماضية".
ووفقا للبحث، فإن "المستوى العسكري الرفيع، أبدى أحيانا شكوكا كثيرة حيال قدرات القوة الجوية، إلا أنه تجنّد أيضا بشكل عام إلى بنائها، ورأى فيها عنصرا هاما في ’سلّة القدرات العسكرية’ وأدرك كيفية استخدامها في الحروب وكذلك في العمليات العسكرية الخاصة بين حربين".
ومهّدت ممارسة القوة الجوية لاستخدامها المكثف في الغارات الإسرائيلية في سورية منذ العام 2013، بحسب البحث. وتُطلق إسرائيل على هذه الغارات، التي تستهدف الوجود العسكري الإيراني في سورية، تسمية "المعركة بين حربين". وأضاف البحث أنه كان لهذه الغارات "تأثير بالغ على تغيّر مكانة القوة الجوية في المفهوم الإسرائيلي للحرب الشاملة".
وعَدَّ البحث أن استخدام إسرائيل المكثّف لقوتها الجوية "أثّر بشكل كبير على شكل بلورة أعدائها لمفاهيم القتال، وطبيعة بناء قوتهم العسكرية، واستعدادهم لممارسة هذه القوة. ويتمّ التعبير عن هذا التأثير من خلال جانبين أساسيين: الأول هو تشديد أعداء إسرائيل المتواصل على مفاهيم دفاعية، والتسلّح بأسحة دفاعية وبناء منظومات دفاعية؛ والثاني هو توجُّه الأعداء إلى حلول هجومية مبتَكَرة، في مجال الأسلحة، وكذلك في مجال المفاهيم القتالية، من أجل مواجهة التفوّق الجوي الإسرائيلي".
قيود استخدام القوة الجوية
وأشار البحث، من الجهة الأخرى، إلى قيود استخدام القوة الجوية، وحساسية استخدامها الخاطئ، وتعلّقها الهائل بالمعلومات الاستخباراتية وفجوات التوقعات المتكررة حيال قدرات القوة الجوية. "وكانت لسلاح الجو إخفاقات كبيرة، وواجه أزمات شديدة على مر السنين: استهداف التفوق الجوي في أعقاب ظهور بطاريات صواريخ أرض – جو؛ حوادث خطيرة خلال التدريبات والعمليات العسكرية؛ وفي العقود الأخيرة، تغيّرات في طبيعة المواجهات، نقلها إلى الحيز المأهول بكثافة ودخول صواريخ أرض – أرض وقذائف صاروخية بحجم واسع إلى الحلبة، التي قوَّضت قدرة الدفاع عن الجبهة الداخلية الإسرائيلية".
وعاد البحث إلى حرب لبنان الثانية، وخصّص لها فصلا كاملا. وجاء فيه أنه في بداية الحرب، قرّر صناع القرار الإسرائيليون، شنَّ حرب "رادعة"، وليس "حاسمة"، ولذلك؛ "كان المنطق يقضي باستخدام القوة الجوية خلالها بالأساس. لكن قاعدة المفاهيم لخوض عملية عسكرية من هذا النوع لم تكُن مبلورة بالشكل الكافي، وأداء كافة المستويات أثناء تطبيقها كشف فجوات كثيرة في المفهوم. وجرى التعبير عن ذلك بخطاب إشكالي وأدى إلى عدة قرارات خاطئة".
وتعرّض الأداء العسكري الإسرائيلي في هذه الحرب لانتقادات كثيرة. "فقد فضلت إسرائيل استخدام قوة نيرانها بواسطة سلاح الجو والمدفعية فقط، وكانت مترددة جدا في استخدام القوات البرية لاجتياح".
وعَدَّ البحث أن السؤال الذي يُطرح هو إذا كانت القوة الجوية الإسرائيلية قادرة على مواجهة تحديات متوقَّعة في السنوات المقبلة، إثر سلسلة تطورات. ويُتَوقَّع أن تواجِه القوة الجوية الإسرائيلية، في السنوات القريبة، تحديين مهمين؛ الأول هو حرب مع إيران، والثاني حرب واسعة مع سورية ولبنان.