أقلعت رحلة الساعة الثامنة صباحا على متن الخطوط الجوية الأمريكية من واشنطن إلى مدينة نيويورك، في الوقت المحدد. كانت سماء منتصف سبتمبر صافية، والهواء ساكنا، ومر الجزء الأكبر من الرحلة من دون أي حادث على الإطلاق. كنا وزميلي في وزارة الخارجية ديفيد بيرس نقرأ الصحف ونراجع ملاحظاتنا عندما بدأت الطائرة الانحدار نحو مطار لاغوارديا. قال أحدهم "انظروا!" وانطلق هدير أصوات مذعورة في مختلف أنحاء القمرة. كان أحد برجي مركز التجارة العالمي مشتعلا، وكان الدخان يتصاعد من الطبقات العلوية مثل السحابة التي تسبق العاصفة الرعدية فوق منهاتن السفلى. مددنا أعناقنا للنظر عبر إحدى النوافذ، ثم عبر نافذة ثانية بينما كانت طائرتنا تميل جانبيا وتقترب من المدرج. ثم في اللحظة التي كنا نحط فيها، رأينا في الأفق البعيد البرج الثاني يشتعل. انطلق رنين الهواتف الخلوية، وحاولت أصوات عشوائية خائفة أن تفهم ما يجري. بالنسبة إلى دبلوماسي مثلي، رأيت الكثير من العنف في مسيرتي المهنية. نجوت من تفجير السفارة الأمريكية في بيروت عام 1983، والذي كان حتى ذلك اليوم من سبتمبر 2001 من الهجمات الأسوأ على الأمريكيين في تاريخ الإرهاب. وديفيد متمرس في شؤون الشرق الأوسط شأنه في ذلك شأن الجميع في وزارة الخارجية. لكن لم يكن المرء بحاجة إلى خبرتنا ليدرك عندما اصطدمت تلك الطائرة بالبرج الثاني، أن ما يجري هو من صنع إرهابيين. في سيارة التاكسي التي قادتنا إلى منهاتن، تباطأت حركة السير كثيرا ثم توقفت كليا في وسط كوينزبورو بريدج. ولدى النظر باتجاه إيست ريفر، بات بإمكاننا رؤية البرجين المحترقين بوضوح شديد. فجأة انفجرا وسط سحب هائلة من الغبار والدخان، وبدا المشهد مستحيلا وكأنه حلم. أصيب سائق التاكسي، وهو مهاجر من جنوب آسيا ــ باكستاني كما أظن ــ بصدمة شديدة. ومن لم يصب بصدمة شديدة في ذلك اليوم؟ ولدت وسط حقول القمح في شرق ولاية واشنطن ، وأعيش هناك من جديد الآن. لكن طوال أربعة عقود بدءا برحلة قمت بها سيرا على الأقدام في سن الحادية والعشرين من أمستردام إلى كابول فكالكوتا، ثم في مسيرتي المهنية في وزارة الخارجية حيث شغلت في شكل أساسي مناصب في الشرق الأوسط الأكبر، أمضيت حياتي الراشدة في الخارج، كطالب ودبلوماسي. وبحلول 11 سبتمبر، كنت قد أصبحت أعرف العالم الذي جاء منه الخاطفون التسعة عشر أكثر مما أعرف بلادي. وأكثر ما كنت أعرفه هو أن العالمين مترابطان، ولاسيما عندما بدت الروابط زائلة إلى درجة أن معظم الأمريكيين لم يكترثوا لها. يرغب الأمريكيون عادة في تحديد المشكلة ومعالجتها ثم المضي قدما. أحيانا ينجح ذلك. لكن في معظم الأحيان يفشل. ولا شك في أن فرض أنفسنا على مجتمعات عدائية أو فوضوية ليس بالحل أيضا. من شأن التعجرف والجهل المتصورين للقوى المتغطرسة أن يولدا روايات جديدة عن الإذلال سوف تؤدي إلى إطلاق نداءات للانتقام بعد قرون من الآن. المطلوب للتعامل مع هذا العالم مزيج من الفهم والمثابرة والصبر الاستراتيجي إلى درجة وجد الأمريكيون تقليديا صعوبة في بلوغها. تعلمنا الكثير منذ 11 سبتــمبر 2001، لــكننا مازلنا نتعلم هذا الدرس. فبينما تدخل الحرب في أفغانستان عامها التاسع، مع ارتفاع عدد الضحايا الأمريكيين واستعادة حركة طالبان نشاطها، ينقلب الرأي العام ضد ما اعتُبًر دائما، مقارنة بالعراق، "حربنا الجيدة". ليس لدى أحد، ولا سيما أنا، حل سهل لاقتراحه. لكن في الأعوام الثمانية الأخيرة، شاركت عن كثب في المجهود الذي بذلته بلادنا لإدارة علاقتها مع الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وأعرف أن النجاح لا يتحقق إلا من خلال تخصيص راسخ ومستدام للموارد وكذلك إيلاء اهتمام راسخ ومستدام. عندما عدت إلى العاصمة بعد بضعة أيام من الهجمات على نيويورك وواشنطن، وجدت بين أغراضي بطاقة ركوب الطائرة التي أقلتني على متن خطوط يو أس. ومنذ ذلك الوقت، تسافر معي في إطار صغير ــ إلى كابول حيث أعدت افتتاح السفارة الأمريكية هناك التي كان قد مضى وقت طويل على إقفالها والتي كان قد فُجًّر جزء منها» وإلى إسلام أباد حيث عُيًّنت سفيرا عام 2004» ثم إلى بغداد عندما كُلًّفنا الجنرال ديفيد بيترايوس وأنا محاولة تغيير مجريات حرب العراق عام 2007. كانت بطاقة ركوب الطائرة لاتزال تذكرني بالسرعة الكبيرة التي يمكن أن يتغير بها عالمنا، ولا سيما عندما يغيب عنا ـ نحن الأمريكيين ـ الطريقة التي يفكر ويتصرف فيها الآخرون ويستعيدون بها ذكرياتهم في أجزاء أخرى من الكرة الأرضية. الرحلتان التاليتان اللتان قمت بهما، بعد نحو أسبوع على أحداث 11 سبتمبر، كانتا إلى باريس ثم إلى جنيف. كانت صدمة الهجمات قد دفعت بواشنطن إلى إعادة الانخراط مع مختلف الشركاء غير المحتملين بينما كانت تستعد لشن حرب في أفغانستان، وبوصفي نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون العراق وإيران والخليج، أُرسًلت للتحدث مع مبعوثين من طهران. في بداية مسيرتي المهنية في مطلع السبعينات من القرن الماضي، تعلمت اللغة الفارسية وعملت في ريف إيران. لكن كان هذا قبل الثورة الإسلامية، وبحلول عام 2001، كانت الولايات المتحدة قد قطعت تقريبا كل أشكال التعاطي المباشر مع الحكومة الإيرانية منذ أكثر من 20 عاما. لم تكن محادثات جنيف ــ برعاية مجموعة عمل تابعة للأمم المتحدة تتألف من بلدان استضافت أعدادا كبيرة من المنفيين الأفغان ــ سرا، ومع ذلك، كنا نلتقي في قاعات المؤتمرات الشبيهة بالكهوف في مبنى الأمم المتحدة في جنيف أيام السبت في غياب الجميع. وكانت أحاديثنا عن مستقبل أفغانستان تستمر لساعات وحتى وقت متأخر من الليل، وكنا نكملها أحيانا في أجنحة الفندق. كنا نطلب خدمة الغرف كثيرا، وأحيانا كنا نراقب شروق الشمس خلف جبال الألب. كانت مفاجأة سارة لي عندما تعرفت إلى نظرائي الإيرانيين: كان اثنان من أصل ثلاثة قد تلقوا تحصيلهم العلمي في الولايات المتحدة، وفي أوقات الاستراحة كنا نقارن الملاحظات عن كرة القدم في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. لكن أكثر ما فاجأني كان تلهفهم الشديد لأن ترسل أمريكا، "الشيطان الأكبر"، جنودا إلى فنائهم الخلفي. في مطلع أكتوبر، بعد نحو شهر من الهجمات على الولايات المتحدة، كنا نجلس حول الطاولة في إحدى قاعات المؤتمرات في مبنى الأمم المتحدة ونتحدث بعبارات فرضية إلى حد ما عن الهيكلية التي يمكن أن يكون عليها البرلمان بعد طالبان. فإذا بأحد الدبلوماسيين الإيرانيين ــ وهو رجل يركز كثيرا على الأفعال ــ يستشيط غضبا إلى أن وقف أخيرا وقال بما يشبه الصراخ إنه إذا لم نتوقف عن الحديث عما "يمكن أن يكون" ونبدأ بفعل شيء ما بشأن النظام القائم، فلن تحدث نقاشاتنا المشتتة أي فارق. ثم خرج حانقا من الغرفة. وبعد أيام قليلة، بدأت حملة القصف الأمريكية. توجهت إلى كابول بعد سقوط حركة طالبان، لإعادة فتح السفارة الأمريكية لأول مرة منذ عام 1989. (كلفني نائب وزير الخارجية ريتشارد أرميتاج بالمهمة بفظاظته المعهودة، فقد استدعاني إلى مكتبه غداة عيد الميلاد وقال بصوت عال "كروكر، نحتاج إليك في أفغانستان حالا"). أتت ثلاثة عقود من النزاع على شوارع بكاملها في العاصمة. لطالما كانت أفغانستان فقيرة، وحتى عندما كنت أسافر متطفلا في مختلف أنحائها عندما كنت طالبا جامعيا طويل الشعر، لم أر شعبا بهذا البؤس ــ إنما أيضا بهذا السخاء. لكن الآن لم تبق بنى تحتية ولا اقتصاد ولا مدارس. وفكرت بصوت شبه عال "يا إلهي، ينتظرنا عمل كثير"، وهو كلام يقصّر إلى حد كبير عن التعبير عن الواقع. بقيت السفارة ــ وهذه شبه معجزة ــ سليمة من الأضرار إلى حد ما. أصابتها بعض الصواريخ. وتطاير عدد كبير من النوافذ. وتسبب حريق صغير ببعض الأضرار، لكن كان هذا كل شيء. طوال 12 عاما، بقي المبنى فارغا، لكن الموظفين المحليين الأفغان لم يتركوا قط وظائفهم. استمر البستانيون في الاعتناء بالحدائق» والميكانيكيون والسائقون في صيانة الآليات» وكان الطاقم موجودا باستمرار في مبنى السفارة مما حال دون دخول طالبان وآخرين إلى المجمع. أوقًف العديدون بتهمة أنهم "أدوات في أيدي الأمريكيين". كان يمكن أن يُقتَلوا. لكنهم صمدوا طوال 12 عاما. وأظن أن بإمكاني القول إنهم فرحوا كثيرا لرؤيتنا نعود. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإيرانيين الذين بدا دبلوماسيوهم على الأرض متلهفين للعمل معنا ومع الحكومة الأفغانية الجديدة بقيادة حامد كرزاي. وكانت إحدى المسائل التي حاولنا إيجاد حل لها في تلك الأيام الأولى، مصير رئيس الوزراء الأفغاني السابق قلب الدين حكمتيار، أحد قادة المجاهدين الأكثر همجية وازدواجية في الثمانينات والتسعينات عندما كانت لديه روابط وثيقة مع الاستخبارات الباكستانية، ومع وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) كما ورد في تقارير كثيرة. كان حكمتيار موضوعا في الإقامة الجبرية في منزل فخم شمال طهران. كان الجميع يعلمون أنه على صلة بأسامة بن لادن، وأنه إذا جرى الإفراج عنه، سيفعل كل ما بوسعه لانتزاع السلطة من كرزاي. قلنا للإيرانيين إنه سيكون أمرا رائعا وجيدا إذا نقلوا حكمتيار من الإقامة الجبرية إلى الاعتقال الفعلي في ظل السلطة الأفغانية. بالتأكيد أردناهم أن يفعلوا الشيء نفسه مع كل هارب من تنظيم القاعدة يقبضون عليه. كان هذا كله مطروحا على طاولة النقاش. ثم ألقى الرئيس بوش خطاب حالة الاتحاد الأول في يناير 2002 الذي ندد فيه بمحور الشر الذي حدده بأنه يضم العراق وكوريا الشمالية ــ وإيران. بعد وقت قصير، اجتمعت "مجموعة جنيف" في كابول. نظر الإيراني إلي وسألني "ماذا تفعلون؟" لا أعرف بالضبط ما كان جوابي، لكنني قلت شيئا من هذا القبيل "اسمع، أنا في كابول. يجب أن نركز على المسائل الملموسة التي كنا نعالجها". لكنني كنت أعلم أن مهمتي باتت أصعب بكثير. بعد فترة وجيزة، لم يفرج الإيرانيون عن حكمتيار وحسب، بل أعادوا دمجه في أفغانستان. والآن تنظيمه المعروف بالحزب الإسلامي هو من قوات التمرد الأكثر فتكا في شرق أفغانستان حيث تكبدت القوات الأمريكية العدد الأكبر من الضحايا منذ عام 2001. لست أقول إن التعاون الأمريكي مع الإيرانيين في أفغانستان لم يكن لينهار في مرحلة ما في مختلف الأحوال. في الواقع، استمر حتى مارس 2003. لكن منذ البداية، أردنا فرض مفاهيمنا على منطقة بالكاد كنا قد بدأنا الانخراط معها من جديد. بحلول مطلع مارس 2002، بعد ثلاثة أشهر من إطاحة طالبان، كان واضحا أن هناك تعقيدات في أفغانستان لم نتوقعها على الأرض، فما بالكم بمعالجتها على مستوى السياسات. فقد تبين أن عملية "أناكوندا" ــ مجهود أمريكيـأفغاني مشترك للقضاء على تركز كبير لحركة طالبان وتنظيم القاعدة في الجبال في إقليم باكتيا ــ أصعب بكثير مما ظننا. اضطررنا إلى استخدام درع حلف شمال الأطلسي ــ الدرع الطاجيكي ــ مما أثار غضب حلفائنا الباشتون في الجنوب. ثم اكتشفنا أن العديد من الأفغان العاديين، وبدلا من الهروب من القتال، كانوا يتدفقون إلى المنطقة ليشهروا السلاح ضدنا. ما كان يجب أن نفاجأ. كان الأفغان قد حاربوا السوفيات. وحاربوا البريطانيين قبلهم. وها قد جاء دور الأمريكيين. (وبالمناسبة، كان البريطانيون معنا). لم يكن منطقيا الافتراض أنه بعد ربع قرن من النزاع وتاريخ من محاربة الأجانب ممتد لمئات السنين، فجأة لن يعود هناك شيء سوى الحلاوة والانسجام في النجود التي تكسوها بقع الشمس. من الواضح أن معركتنا في أفغانستان لم تنته، لا بل كانت لا تزال في بدايتها. أظن أن كثرا باتوا يدركون الآن أن هذا الخطأ الجوهري ــ التقليل من شأن الخصومات المحلية وحدة مقاومة الاحتلال ــ تكرر على نطاق واسع في العراق. لا يعني هذا أن صدام حسين لم يكن يستأهل الإطاحة. لنكن واضحين بهذا الشأن، لأنني أظن أنه أمر لا يدركه أمريكيون كثر اليوم، ولا سيما الليبراليون الأمريكيون. داخليا، في العراق، كان صدام حسين الحاكم الأكثر إجراما وشرا الذي عرفه العالم منذ سقوط النازيين، ربما باستثناء بول بوت في كمبوديا. كان يمارس الترهيب على الجميع في البلاد، حتى على الأوساط المحيطة به. كنت أعمل في بغداد عام 1979 عندما حوّل مؤتمرا لحزب البعث إلى تطهير عام، فأمر بأن يغادر العشرات من رفاقه السابقين القاعة ويتم إعدامهم في الحال. وإقليميا، اجتاح بلدين مجاورين. في حالة إيران، شن واحدا من النزاعات الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية. كما اجتاح الكويت وقوّض أو حاول أن يقوض دول الخليج بالإضافة إلى الأردن وسورية. ولم أتحدث حتى عن أسلحة الدمار الشامل التي رغب بلا شك في اقتنائها والتي اعتقدنا صدقا أنه امتلكها. غير أن إطاحة صدام وحدها لم تحدث تحولا سحريا في العراق. بعد عودتي إلى واشنطن عام 2002، ومع اقتراب الحرب، أكثر ما كنت أخشاه هو كل الأشياء المجهولة التي تكمن أبعد من القتال. كنت أعلم من الفترة التي عملت فيها في بيروت أننا سنطلق مجموعة متنوعة من القوى، مع ما سيترتب عن ذلك من تداعيات كثيرة ومتشعبة، وكنت أشك في استعدادنا للتعامل معها. أو في الحقيقة، حتى لو توافرت كل الاستعدادات الممكنة، لم أكن على يقين بأننا قادرون على التعامل معها. إلى جانب الكثيرين سواي في وزارة الخارجية، دعمت الدراسات المشتركة بين الوكالات حول مشروع مستقبل العراق. اعتقدت أنني تعلمت بعض الدروس من كابول التي قد تكون مفيدة. نحو نهاية العام، بذل مكتب الشؤون العراقية الذي كنت أشرف عليه، مجهودا ليعرض على صانعي السياسات بعض الأمور التي يمكن أن تحصل إذا تدخلنا عسكريا في العراق. لا تزال الوثيقة التي تدعى أحيانا "مذكرة العاصفة الكاملة" تُصنَّف في خانة السرية، لذلك لست مخولا الخوض في تفاصيل محتواها. لكن في مختلف الأحوال، لم يكن لها أي مفعول عملي. كانت للمعارك الداخلية في واشنطن تداعيات مباشرة على ساحة المعركة. ففي بغداد بعد سقوط صدام في أبريل 2003، كانت لقلة من القادة العسكريين الأمريكيين صورة واضحة عن المشهد السياسي وأهميته بالنسبة إلى المهمة ككل. أتذكر أنني التقيت أحد هؤلاء القادة ولم يكن يبالي بأي شيء على الإطلاق، ما عدا استخدام علم الحركة بالطريقة الصحيحة: الانتشار والدفاع والتصويب وإطلاق النار. حاولت أن أشرح له كيف ستبدو البلاد للعراقيين ولقواته إذا لم نجد سبيلا لمعالجة مختلف المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فكان جوابه (وليس الوحيد الذي أجاب بهذه الطريقة): "ليست هذه مهمتنا. ما تقوله لي مثير للاهتمام، لكن لا علاقة لي به". في هذه المرحلة، وبعدما اتخذنا القرار المصيري بالتدخل في العراق، لم نكن نتدخل بالقدر الكافي. وتُرجًمت نهاية الديكتاتورية على الفور تقريبا بنهاية النظام العام. وكأن بابا انفتح أمام المجرمين كي يمروا عبره. سيطر اللصوص على الشوارع، فنهبوا المتاجر والمباني الحكومية، وخربوا المتحف الوطني، حتى أنهم حطموا الشبكة الكهربائية للبلاد وباعوا معادن الأسلاك. رأى العراقيون في الفوضى دليلا على أن الأمريكيين لايهتمون إطلاقا بأمورهم ، وأنهم غير قادرين على التحكم بمجرى الأحداث، ولا يملكون خطة ولا الموارد الضرورية لضبط البلاد. لم يكونوا مخطئين بالكامل. فماذا كانت الخطة لتشكيل حكومة جديدة مثلا؟ لم يكن أحد يعلم. تفاوضنا طوال أسابيع لإنشاء هيئة حاكمة عراقية تمثل المجموعات والإثنيات والأديان المختلفة في البلاد. استنفد هذا المجهود الكثير من قوانا، وقد حصلنا فيه على مساعدة أساسية من بعثة الأمم المتحدة بقيادة سرجيو فييرا دي ميلو الذي أعلن تشكيل مجلس الحكم العراقي في منتصف يوليو. ثم هاجم انتحاري مقر الأمم المتحدة في فندق كنال في بغداد، مما أسفر عن مقتل سرجيو وعدد كبير من زملائه. فكانت الخسارة كارثية. وبعد انهيار مجهود الأمم المتحدة جراء التفجير، لم تعد هناك قوة محايدة لرعاية العملية السياسية. وأصبح سهلا بالنسبة إلى المتمردين تصوير النزاع بأنه بين العراقيين والمحتلين. أحيانا ينجح الإرهاب، وكان خصومنا في العراق يفهمون الديناميات هناك أفضل بكثير من عدد كبير منا. لقد فهموا جهلنا واستغلوه. واعتبروا أن بإمكانهم الاتكال على افتقارنا إلى القدرة على الاحتمال على مر تاريخنا. وكانوا شبه محقين في ذلك. لم يكن العراقيون الوحيدين الذين اعتبروا أنه لا يمكن الاعتماد على الأمريكيين. في العام التالي، عُيًّنت سفيرا في إسلام آباد حيث تكوّن اعتقاد لدى جيل كامل من السياسيين والقادة العسكريين بأن الولايات المتحدة حليف غير موثوق. انظروا إلى التاريخ. لم تخضع المناطق القبلية في شمال غرب باكستان قط لأي سلطة خارج تلك التلال الوعرة. وطوال عقد، قدنا مجهودا ضد السوفييت انطلاقا من الحدود الشمالية الغربية، باسم الإسلام. نظمناه» ودعمه الباكستانيون» وموله السعوديون. ثم قررنا الانتقال إلى مرحلة أخرى. فتحولنا من الحليف الأكبر لإسلام آباد إلى فرض عقوبات عليها بعد الاختبارات النووية التي أجرتها. وبحسب نظرة الباكستانيين إلى الأمر، رفعنا الرهانات وتركناهم مع الوحش الذي ساهمنا في صنعه. لم يكونوا يثقون بنا. وفي معظم الأحيان، لم نكن نثق بهم. لكن الباكستانيين ليسوا من النوع الذي يمكننا أن نقول لهم: "سوف نعطيكم هذا الشيء إذا فعلتم ذلك، وإن لم تفعلوه فسوف نأخذه". فنظرا إلى سجلنا، كانوا يرون في ذلك مقدمة لانسحاب أمريكي جديد ويتحوطون في رهاناتهم. وعندما كنت في إسلام آباد، كان الرأي السائد في واشنطن أن الرئيس برويز مشرف لم يقم بما يكفي لكبح المقاتلين الإسلاميين مثل جماعة عسكر طيبة التي كانت تركز على كشمير، أو أنصار تنظيم القاعدة في المناطق القبلية. كانت مطالب واشنطن تركز دائما على ما هو فوري وتكتيكي: "اقضوا على تلك المجموعة! اقضوا على أولئك القادة!" وعندما كنا نطلب من مشرف القضاء على عسكر طيبة ـــ الذين كان معظم الباكستانيين يعتبرونهم مقاتلين أحرارا بطوليين ــ كان يقول: "لا يمكنني محاربتهم وجها لوجه. لن يدمرني هذا فحسب، بل سيدمر البلاد أيضا". وبناء الثقة عملية طويلة، لكن أحيانا يمكن قطع أشواط كبيرة في وقت قصير. ففي عام 2005 أسفر زلزال عن مقتل 70.000 باكستاني في دقيقتين. فهبت الولايات المتحدة على الفور إلى إرسال مجهود الإغاثة المجوقلة الأكبر والأطول منذ جسر التموين الجوي إلى برلين قبل 60 عاما. في البداية، اعتقد بعضنا أنه من الجيد لصق صور كبيرة للعلم الأمريكي على مروحيات "شينوك" التي أُمًرت بالتوجه من أفغانستان إلى باكستان لتقديم المساعدة. فقال قائد فرقة المروحيات الذي كان قد خرج للتو من منطقة حربية: "هل فقدتم صوابكم؟ لماذا لا ندخر الوقت ونرسم عليها رصاصة تصيب الهدف؟". فقلت: "لا، ثق بنا في هذه المسألة. سوف تنجح". وقد نجحت. أصبحت مروحيات شينوك رمزا لمجهود الإغاثة الدولي برمته. وبعد شهرين، بدأت ألعاب في شكل مروحيات شينوك تظهر في المتاجر وعلى إحدى جهاتها أعلام أمريكية كبيرة. (بالتأكيد، كانت مصنوعة في الصين).كانت المهمة الأخيرة التي كلفتني بها وزارة الخارجية العودة إلى العراق في مارس 2007. كانت المشاكل التي بدأت بالظهور في الأسابيع الأولى التي أعقبت الاجتياح قد أصبحت هائلة. كان السنة والشيعة يذبحون بعضهم بعضا بالمسدسات والسكاكين والمثاقب الكهربائية. وكانت العبوات الموضوعة على جوانب الطرقات تحصد عشرات الضحايا في صفوف الجنود الأمريكيين. تعرف منطقة الشرق الأوسط أنه ليس باستطاعتها إبعاد القوى العظمى المصممة على دخولها. فطوال مئات السنين، استطاع الفرنسيون أو البريطانيون، الروس أو الأمريكيون، أن يشقوا طريقهم إليها. لكن في حين لا تجيد بلدان المنطقة المناورة الدفاعية الضرورية لصد الأجانب، فهي تتمتع بضربة مضادة قوية. فعندما يصبح الغريب في الداخل، ينكبون على العمل للتخلص منه. تعلمت هذا عن كثب في 18 أبريل 1983. كنت جالسا في مكتبي في الطابق الرابع في السفارة الأمريكية في بيروت عندما دفعت بي قوة هائلة ــ لم أسمع أي صوت ــ نحو الجدار. تلقت زوجتي، كريستين، التي كان مكتبها يقع خارج مكتبي مباشرة، ضربة مؤذية على الرأس عندما تطايرت النوافذ» وقد حولت مادة المايلار الملصقة عليها الزجاج المتطاير إلى كرة قاسية. كانت جروحنا سطحية، غير أن شاحنة مفخخة حطمت الواجهة الكاملة لأحد أجنحة السفارة وصولا إلى الطابق السابع. وعندما خرجت من مكاتبنا التي تقع في الخلف، رأيت أن مركز السي آي أيه الذي يقع في الطابق نفسه لجهة الأمام، قد اختفى. كنت أنظر في العراء. في المحصلة، أسفر الانفجار عن قتل 63 شخصا بينهم 17 أمريكيا، وبعد أقل من عام، عندما دمر تفجير آخر ثكنة المارينز الأمريكية، انسحبت الولايات المتحدة من لبنان. لم يكن الإيرانيون الذين شن وكلاؤهم هذين الهجومين، الوحيدين الذين تعلموا من تلك التجربة. عند وصولي إلى بغداد، كان المتمردون السنة والميليشيات الشيعية، وداعموهم في سوريا وإيران، يعتقدون أنهم على وشك طرد أمريكا من العراق. كنا نفتقر ــ كما لمسوا في لبنان ــ إلى الصبر الاستراتيجي. لكن بدلا من العودة إلى الوراء، تقدمنا إلى الأمام، وليس فقط بواسطة الجنود. رافقتني كريستين إلى بغداد، وذات يوم في مارس 2008، عندما كانت الميليشيات الشيعية تمطر المنطقة الخضراء بقذائف الهاون، تعرض منزلنا للقصف. أحضر لي معاون رسالة خلال أحد الاجتماعات ورد فيها "قُصًف منزلك للتو، لكن زوجتك بخير". تطايرت كل النوافذ في الطابق العلوي في منزلنا في بغداد. ومع ذلك، لازمت زوجتي المنزل. على غرار كل ما هو راسخ، تكونت العلاقة بين ديفيد بيترايوس وبيني على مر الوقت. بدأنا العمل معا قبل وصولنا إلى بغداد، عندما كان لا يزال في فورت ليفنوورث وكنت في إسلام أباد. لم يكن لدينا قط ما يُعرَف بوحدة القيادة، لكننا كنا ملتزمين بوحدة المجهود، وعملنا باستمرار من أجل تحقيق ذلك. وقد أدركنا أن أي مسألة في العراق لن تكون عسكرية بالكامل أو سياسية بالكامل. في يونيو 2007، بعد بضعة أشهر من زيادة عديد الجنود، فُجًّر المسجد الذهبي في سامراء. وقبل عام، كان تفجير مماثل في المسجد قد تسبب بحمام دماء مذهبي. عندما سمعت النبأ، فكرت على الفور في أنه يجب أن أكلم دايف، لكنني وجدته واقفا أمامي في مكتبي. اتفقنا على وجوب لقاء رئيس الوزراء نوري المالكي وجها لوجه، وفي الحال. حصل هذا كله بالحد الأدنى من النقاش» كان حدسيا. وقد تمكنا من خلال عملنا مع المالكي، من منع تكرار العمليات الانتقامية التي أدت إلى عواقب كارثية في العام السابق. التاريخ مصنوع من أشياء لم تحصل إلى جانب الأشياء التي حصلت. وعدم اندلاع أعمال عنف بعد التفجير الثاني في سامراء قد يكون نقطة التحول في زيادة عديد الجنود. وقد تركزت الاستراتيجية التي اتبعناها على تكييف تكتيكاتنا مع المجتمع كما هو، لا كما كنا نعتقد أنه يجب أن يكون، والإثبات للعراقيين بأننا لن نتخلى عنهم ونرحل بكل بساطة. لكن بينما تولي الولايات المتحدة انتباها متزايدا لأفغانستان، وتتحدث عن إرسال مزيد من الجنود إلى هناك، يجب أن تنتبه جيدا للدروس التي تستمدها من العراق. في أفغانستان أيضا، اتُّخًذ القرار بالتحدث مع الأشخاص الذين يحاربوننا، وربما الحصول على دعمهم. ليس السؤال المطروح، هل كانوا يطلقون النار علينا بل هل يمكننا أن نجعلهم يكفون عن ذلك؟ غير أن النزاع الداخلي الذي لا هوادة فيه ليس مستوطنا في العراق. أما في أفغانستان فهو مستوطن. لا يتذكر معظم الأفغان أنه كانت لديهم يوما حكومة مركزية فعالة. الهوية القبلية هي كل شيء. وقد تعلم تنظيم القاعدة وحركة طالبان من أخطاء التمرد في العراق. لم يرغموا الناس على الانقلاب ضدهم. يعرفون تلال الميدان السياسي ووديانه تماما كما يعرفون حقول القتل في إقليم هلمند أو كهوف تورا بورا. لقد تعلموا الصبر الاستراتيجي. لا يمكنني أن أبدأ بتوقع ما سيحصل في أفغانستان، أو في العراق. لكن بينما أغادر الميدان، يشجعني أن دايف بيترايوس، رفيقي من الفترة التي أمضيناها في بغداد الذي يعرف كل شيء عن الصبر الاستراتيجـي، يشرف على الحربين معا.اليوم أجد نفسي بعيدا جدا من تلك الأراضي العصية، وها قد عدت وسط الأمريكيين الذين قد يتخيلون أنهم بعيدون عنها، وربما لا شأن لهم بها. لكن فوق كمبيوتري، هناك ورقة صغيرة في إطار تذكرني بمخاطر إدارة ظهرنا للعالم ظنا منا بأننا نستطيع الانسحاب بكل بساطة.بمشاركة كريستوفر ديكي