خبر : ثقافة البُعد الواحد! ...خيري منصور

السبت 12 سبتمبر 2009 01:02 ص / بتوقيت القدس +2GMT
ثقافة البُعد الواحد! ...خيري منصور



اختزل النقد العربي الاتباعي مصطلح الغنائية بحيث اقتصر على نمط من الشعر، تماما مثلما اختزلت الظاهرة العذرية لتكون حكرا على الحب، والحقيقة ان المصطلحين قابلان لإعادة النظر والاعتبار، فالغنائية هي رؤية قبل كل شيء، وقد يوصف المؤرخ بأنه غنائي اذا رأى ما يريد رؤيته فقط، وهيمن عليه الاسقاط والرغائبية، وهذا ما دفع مستشرقا مثل غرونباوم الى النظر لبعض المؤرخين العرب على انهم غنائيون، وبالتالي أفقيّون، القليل منهم من اعتنى بالتمحيص والحفريات او ما سماه ابن خلدون الاحتكام الى القرائن لترجيح هذه الخبر او ذاك، لكن الغنائية أقامت وعبرت حدود أزمتها حتى أيامنا، فلا ديكارت ولا ابن خلدون ولا حتى طه حسين وجدوا من يتعامل مع شكّهم المنهجي على انه طريق آخر للمعرفة والفارق بينه وبين الطرق المعبّدة التي وقعت فيها الحوافر على الحوافر هو ان هذا الطريق يتم اجتراحه في الغابة بعكس ذلك الطريق الداجن الذي ما إن يصل خاتمته حتى يعود، ويظلّ محكوما بهذه المراوحة، بحيث يكون الجهد كله لصالح التكرار وليس لصالح الاضافة، وهناك تبعا لهذا التصور المغاير لمصطلح الغنائية روايات غنائية، ومقالات وقصص ايضا غنائية، تستعيض عن المفقود الدرامي بالايقاع أي الشّحنة الانفعالية التي تحول المشي الى رقص، لكنه رقص النوافير التي تسيل حول نفسها او رقص الشجر تحت العاصفة رغم ثبات جذوره. والعذرية ايضا كذلك، فهي ليست مقتصرة على نوع من الحب الذي يتحول الى حِرفة، ويجهد العاشق في البحث عن عقبات تحول دون وصاله مع المعشوق، وذلك لسببين اولهما، البحث عن توتير اضافي يحوّل الحرمان الى مطلب، والآخر تجاوز الجسد رغم انه الجاذب الاساسي للعملية كلّها، بحيث يغدو غيابه أسطع من حضوره، وان كان الحب العذري احيانا يتحول الى مزيج غريب من الماسوشية والفيتيشية. الماسوشية بمعنى استمراء العذاب والبحث عن اسبابه التي تولده، والفيتيشية بمعنى التعلق بأشياء المعشوق، بدءاً من منديل طار في الهواء وانتهاء بطلل موشوم او ممهور بذكرى. يعنينا هنا المصطلح الاول، وهو الغنائية، قدر تجاوزه وليس تعلقه فقط للشعر، وانماط التعبير التي تقترب منه، وتتغذى عليه، فالرؤية الغنائية هي كما يقول ميشيل بوتور من أقارب الشعراء الفقراء، وبمعنى آخرمن ضواحي ذلك المركز المشعّ والجاذب، لهذا تمتلىء الرواية الغنائية بما يسمى في علم الجمال البقع القرمزية، بحيث يضاء جانب على حساب آخر يبقى معتما، فالنثر عندما يفقد غائيته يتحول كما قلنا من قبل الى رقصة سواء مارستها نافورة وهي في مكانها او شجرة أسيرة لجذورها. وسوف اذهب في هذا الاستطراد والتأويل لمصطلح الغنائية الى ما هو أبعد وأشمل بحيث تصبح ثقافة بكاملها غنائية، وبالتالي أفقية وتفتقر الى الجدلية، مما يؤدي في النهايات الى استنقاعها، ولأن النسبة العظمى من ثقافتنا العربية أدبية بالمعنى الجمالي الدقيق، فقد بقيت المعارف الأخرى مطرودة من هذا الملكوت الأخضر، فالفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والإناسة هي خيوط أصيلة في أية ثقافة ذات تكوين عضوي، وقد لا ينأى الاقتصاد عن ذلك، لكن بالمعنى المتصل بأنماط الاتباع السائدة في مجتمع ما، وقد أتاح لي ما قرأته عن تأثير انماط الانتاج في بعض بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية على الثقافة، ان أتأمل مثالا واحدا فقط يخصّني، هو شجرة الزيتون ومواسمها شرق البحر الأبيض المتوسط، فموسم الزيتون في مرحلة القطاف لا يستغرق اكثر من شهر في السّنة، وثمة بطالة مشروعة ان لم تكن متنكرة لدى زارعي هذه الشجرة يتيح لهم الافراط في الحكي وتزجية الوقت في المجالس والدواوين على مدار السنة. ومن كتب عن شجرة الكاكاو او المطاط كان يرتكز الى المفهوم ذاته، وبامكان من يرصد نمط الانتاج النفطي او أية ثروة أخرى في باطن الارض كمناجم الذهب والماس ان يتوصل الى تأثير ايقاعاته وأنماطه على حياة الناس، واذا كان ماركس قد ربط جدليا بين أنماط الانتاج الآسيوي في زمنه وبين دولة الاستبداد، فإن هذا مجرد مفتاح لا اكثر، وان كان ماركس قد جرّبه ايضا في الجزائر. ان انماط الانتاج تفرض ثقافتها وبالتالي تربوياتها، خصوصا في مجتمعات باترياركية محرومة من اعلان الفطام عن الرضاعة حتى الشيخوخة، وهنا نجد أنفسنا على مقربة من باب مختوم بالشمع الاحمر، هو علاقة غياب تداول السلطة سياسيا في العالم العربي بالثقافة الغنائية، فاليأس من هذا التداول، شمل احزابا وناشطين ومثقفين، ووجدوا بعد العديد من التجارب ان المسموح بتداوله هو أقل بكثير مما يحلمون، لهذا انتهت الاحزاب الى أندية اجتماعية، تواصل الحياة بفضل اشتراكات الاعضاء، واستقال المثقفون من دور تاريخي قبل ان يبلغوه، وهكذا تنامت القطيعة بين الثقافة الغنائية والواقع الدرامي، وانتهت الى حراك أدبي مهني، بحيث يزهو كثير من الادباء والشعراء العرب بأنهم عازفون عن معرفة أي شيء له صلة بالسياسة او الاقتصاد او علم النفس الاجتماعي رغم انهم ضحايا لما يجهلون، فالاقتصاد المعرفي او الثقافي لا يقل تعقيدا ونفوذا عن الاقتصاد السياسي ما دام هناك مافيات للورق، وبورصات للناشرين وتسعيرة رسمية للنّصوص، وهذا كلّه يتأثر سلبا وايجابا بالديناميات الاقتصادية على اختلاف فروعها. * * * * * * *المثقف الغنائي، هو باختصار ذلك الذي بنى كوخه في مكان توهم انه آمن في الغابة، وهو لا يعي بأن نظم الحكم والاقتصاد وأنماط انتاجه تتحكم في حليب اطفاله، والغلوكوز الذي قد يحتاجه في لحظة ما داخل غرفة انعاش. قبل اكثر من نصف قرن سخر ستيفن سبندر من مثل هذا المثقف الغنائي، لأنه لا يدرك بأن متوسط عمره وكل ما سيطرأ على حياته مرتبط عضويا بواقع يضغط على أنفه لكنه يحاول ان لا يراه، وليس عسيرا على ناقد جدير بهذا اللقب ان يرصد تجليات الرؤى الغنائية للواقع والتاريخ من خلال نصوص أدبية ذات بعد واحد، تفتضح وعيا سالبا، وارتهانا لعاطفة لا تعرف غير وتر واحد، لهذا سرعان ما يتهرأ هذا الوتر تحت آلاف الأصابع، ودرءا لالتباس محتمل في مثل هذه السياقات، فإن ما نعنيه ليس تحويل النصوص الى أشجار معارف تتدلى عن أغصانها المعلومات والافكار، وربما العكس هو الأصح، فالنصّ المثقف لا يجهر بثقافته بقدر ما ينشحن بها، ويهضمها ويحوّلها الى صور وتعابير تبدو كما لو انها انبثقت للتو من القلب، وهنا لا بد من التذكير بما كان يسميه النقاد العرب القدامى تثقيف الحواس، فالحواس كالسمع والبصر والشم قد تكون أميّة، وقد تكون مثقفة، اذا سعى اصحابها الى اختزان خبراتهم وما تمثلوه وهضموه من خبرات الآخرين، وأميّة الحواس او جهلها تجلى مرارا في الترجمات، فكل انواع الزهور كانت في فترة ما مجرد ’ورد’ وكل أدوات الموسيقى وآلاتها هي ’المعزف’، وهناك تجربة رائدة للناقد والشاعر سي. لويس عن الصورة الشعرية ومنابعها، فهي بصرية احيانا وسمعية احيانا أخرى، وقد تكون حاسة الشمّ مشحوذة على نحو كلبي كما عبّرت الشاعرة اميلي ديكنسون بسخرية هي أقصى الجد. الحواس الأمية لا تصل الى اسرار العالم وجوهر مكوناته وعناصره، فالاصوات تنزلق عن الأذن غير المدربة، والزكام الشعري لا الدجاجي او الخنزيري يحجب روائح العالم عن النصّ. * * * * * * * * *تقدم الملتقيات الأدبية التي تعلن القطيعة مع المعرفة عيّنات نموذجية من الثقافة الغنائية ذات البعد الواحد، فلا يسمع المرء الا تعليقات مبسترة على أشخاص اكثر مما هي عن نصوصهم، ونادرا ما تثار في مثل هذه الملتقيات قضايا معرفية هي في الصميم من الأدب، لكن التعريف التقليدي للأدب يحذفها، فيصبح من يمارس هذه المهنة آخر من يعلم بما تسرب من اصابعه. وسواء تعلّق الأمر بتثقيف الحواس او النصوص فإن المقصود بذلك ليس ابهاظ القلب بما يفرز الدّماغ لكن حبل السرّة غير مقطوع على الاطلاق بينهما، فالقلب له تفكيره، والعقل له عاطفته، وهذا ما دفع جين اوستن الى تصعيد الوعي بهذه المسألة الى مستوى ابداعي تربوي، ويبدو ان الثقافة الابداعية غادرت منذ زمن بعيد وادي عبقر وجبل الاولمب، وسائر الأوهام التي حذفت الفارق بين الموهوب والموهوم، وحين يصبح الجهل بالمعارف كلّها مطلبا ابداعيا لتحرير النصوص من تاريخانيتها ومن حمولتها التأويلية فإن الحصيلة هي هذا الركام من صناديق مليئة بقطع الغيار المتماثلة والتي يسدّ اي واحد منها مكان الآخر... وقد تكون هذه اللحظة الحرجة بل الثقيلة كما يصنّفها المؤرخون تبعا لمثيلاتها السابقات مناسبة للاعتراف بلا مواربة، بأن حالة الخمول والاستنقاع السياسي، التي نجمت عن منع تداول السلطة سياسيا، لها مرادف ثقافي، ان لم يكن توأمها، وحين يحدد السقف سلفا لأي حراك انساني فإن على البشر ان يتولوا بأنفسهم قطع رؤوسهم، كي يتأقلموا مع حجم علبة السردين التي تطرح لهم بديلا عن المحيط...اما من يستنكرون علينا او على سوانا العودة الى ينابيع المعارف، ونسبة كل شجرة الى غابتها وكل ثمرة الى شجرتها.. فإن عليهم ان يدركوا بأن آدم المعرفة ومخلوقها الأول لم يعد بيننا في هذه الألفية الثالثة بمقياس والسابعة او الثامنة بمقياس آخر..كم هو موهوم وليس موهوبا من يتصور بأنه يكتب كما لو كان أول من كتب على الطين او البردي، او يغني كما تغني الطيور رغم ان غناءها كما يقول العملاء تعبير عن خوف او جوع او حنين !