واشنطن الشرق الأوسط يحفل بالرجال الذين يريدون فرض النظام, وقد كانت هذه هي الحال منذ عهد الفراعنة على الأقل. ولكن لا أحد من هؤلاء يعمل بطريقة مماثلة تماما كرئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض. فياض، البالغ من العمر 57 عاما، تعلم طرق عمله، جزئيا، في الولايات المتحدة حيث درس في جامعة تكساس وعمل لاحقا في صندوق النقد الدولي. ويعتبر فياض بناة المؤسسات الأمريكيين العظام من بين النماذج التي يحتذي بها. أحد المفضلين لديه من بين الآباء المؤسسين لأمريكا هو ألكساندر هاملتون، الفيدرالي الأرستقراطي من ولاية نيويورك. ففي بعض الأحيان، تبنى فياض هو الآخر روحية التخوم التي سادت الغرب الأمريكي حيث كان النظام غالبا ما يأخذ شكل العدالة القاسية والعنيفة. (جورج دبليو بوش درج على استقبال فياض في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض بتحية شعار تكساس المعروف بعبارة «هوك ذم هورنز» وهي عبارة تشير إلى التحية يرسمها المحيي بأصابع اليدين الخنصر والسبابة [نسبة إلى الثيران]). واحدة من العبارات الأكثر استعمالا من قبل فياض، التي يتمتمها كالتسبيحة، هي عبارة شائعة الاستعمال جدا في وسط الولايات المتحدة، وهي «يجب أن يكون ذلك معقولا». المحاولات على الطريقة الأمريكية لفرض النظام في الشرق الأوسط لم تنته بصورة عامة نهاية جيدة. ومع ذلك، وبطريقة ما هذه المرة، فإنه يبدو أن أمرا ما يسير بصورة معقولة في الأراضي الفلسطينية، وهو أمر يعزى فيه الفضل إلى حد كبير إلى ما يقوم به فياض. فالجريمة وانعدام القانون تم تخفيضهما بصورة كبيرة في مناطق ساخنة مثل مدينتي نابلس وجنين، كما أن حماس باتت غير مرئية تقريبا في الضفة الغربية. ويقدر صندوق النقد الدولي أن اقتصاد الأراضي الفلسطينية قد ينمو بنسبة تصل إلى 7 بالمائة في 2009 (إذا خففت إسرائيل بصورة إضافية القيود على الحركة هناك).في الصيف الماضي، شعر الكونغرس الأمريكي بما يكفي بالارتياح تجاه فياض بحيث قام بإيداع 200 مليون دولار في حسابات السلطة الفلسطينية، وهو حدث نادر الوقوع في السنوات الأخيرة. وقد أبلغني مبعوث اللجنة الرباعية للشرق الأوسط توني بلير أن أداء فياض كان أداء «من الدرجة الأولى قطعيا, فهو مهني، جريء وذكي». وبطريقته غير المحتملة، أصبح فياض النموذج المثالي لواقعية أوباما في الشرق الأوسط: مسؤول غير منتخب، مستبد نوعا ما ولكنه أيضا فعال وغير فاسد. في مقال أخير، رحب توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز بما وصفه بظاهرة «الفياضية» كنموذج يستحق المحاكاة من قبل الحكام في الوطن العربي الأوسع. غير أن لدى فياض الآن طموحا أكبر. ففي الشهر الماضي، أعلن عن خطط لبناء المؤسسات للدولة الفلسطينية خلال عامين, بغض النظر عن التقدم في عملية السلام. المسؤولون الإسرائيليون أعلنوا رفضهم لذلك، مشددين على أنه لن تكون هناك دولة حقيقية إلى أن تتحقق مطالب الأمن لإسرائيل. ولكن بالنسبة إلى فياض، الذي أمضى حياته محاولا زرع نوع من النظام في حياته وحياة أبناء شعبه، فإن الإسرائيليين أساءوا فهم المقصود من خططه. وأبلغني في حديث أجري معه في مكتبه برام الله في إحدى الأمسيات أخيرا بقوله: «إذا نظرت إلى كل المتغيرات من حولنا، فستجد أنه ليست لدينا سيطرة على معظمها. وهذا هو العنصر الوحيد الذي يمكن أن يخضع لنوع من السيطرة. من سيقوم ببناء هذه المؤسسات إن لم نقم نحن بذلك؟ إننا لن نجلس متراخين بانتظار حدوث ذلك. علينا أن نقيم هذه الدولة إذا كنا نريدها فعلا. علينا التوقف عن تقبل الأمور على أنها قضاء مقدر». وقد وصف ذلك بأنه «تعبير سام عن المسؤولية الذاتية»، مضيفا إنه لا يفهم حقـا لمـاذا يتذمـر بعـض الإسرائيلييـن مـن ذلـك. ومع ذلك، فإن على فياض، التكنوقراطي والبراغماتي الكفؤ، أن يكون حذرا من تحوله إلى نموذج أكثر شيوعا في العواصم الشرق أوسطية: أي أن يتحول إلى زعيم فردي مستبد. فهو، قبل هذا وذاك، ليس رئيس وزراء منتخبا ديموقراطيا. ففي آخر مرة توجه فيها الفلسطينيون إلى صناديق الاقتراع، أي في يناير 2006، لم يمنح مؤيدو فياض حزبه سوى نسبة ضئيلة جدا من التأييد وهي 2.4 بالمائة من مجموع أصوات الفلسطينيين. وفي مجتمع أقامت فيه الفصائل السياسية مليشياتها الخاصة بها، فإن فياض لا يسيطر على أي مجموعة خاصة من الرجال المسلحين، بل وليس لديه حتى جهاز حزبي. (مجموعته الصغيرة التي تسمي نفسها الطريق الثالث حلت نفسها بعد أدائها الضعيف في الانتخابات). ولم يقم الرئيس محمود عباس بترفيعه إلى سدة السلطة في الضفة الغربية إلا في خضم أزمة وطنية، أي بعد سيطرة حماس على قطاع غزة في يونيو 2007، حيث عينه رئيسا للوزراء بمرسوم طارئ. وأوضح فياض ذلك بقوله: «لم تكن هناك قط طريقة ديموقراطية لفعل ذلك». وقد فرض رئيس الوزراء النظام الذي يثمنه جدا بمساعدته على القيام بسلسلة من العمليات الأمنية القاسية. ففي السنتين الماضيتين، قامت قوات السلطة الفلسطينية باعتقال نحو 8.000 فلسطيني في الضفة الغربية» لايزال نحو 700 منهم في السجون حتى الآن. ويتحدث السجناء السابقون عن أعمال ضرب وتعذيب أثناء اعتقالهم في سجون السلطة. وإذا ما قُدر للسجناء أن يروا داخل قاعة المحكمة، فإنها عادة ما تكون محكمة يترأسها قاض عسكري. منتقدو هذه الأعمال يقولون إن الاعتقالات في معظمها سياسية وهي موجهة إلى الإسلاميين في الضفة الغربية. وقال مدافع حقوقي فلسطيني لم يرد ذكر اسمه لكي يبقى مرضيا عنه من قبل فياض إن «العقرب استدار بحدة من حالة من الفوضى وانعدام الأمن والنظام إلى حال دولة بوليسية». وكذلك فإن عمليات الاعتقالات الأمنية تهدد أي فرصة ممكنة للمصالحة بين الضفة الغربية وقطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس، وهي المصالحة التي يعتقد الكثير من المراقبين بأنها شرط سابق لأي اتفاق سلام. بل إن عددا من أصدقاء رئيس الوزراء المقربين بدأوا في تحذيره في مجالسهم الخاصة بأن أساليبه المتشددة هذه تهدد بتقويض مشروعيته. وكذلك فإن ظهوره وكأنه أداة أمريكية يعتبر هو الآخر نقطة ضعف إضافية, وهي نقطة ضعف يبذل الإسلاميون كل جهودهم لاستغلالها ضده. على مدى عدة أيام هذا الصيف، رافقت فياض في رحلاته عبر الضفة الغربية حيث يبدو أنه يعمل من أجل بناء التأييد لنفسه عن طريق تمويله مئات المشاريع الصغيرة مثل المكتبات العامة والمدارس. ولأن الفلسطينيين يعتمدون اعتمادا زائدا على المساعدات الخارجية ففي العام الماضي جاء أكثر من نصف ميزانية السلطة الفلسطينية البالغة ثلاثة مليارات دولار من الخارج فإن أبناء الضفة الغربية يدركون أن من المفيد أن يكون لديهم قائد يحتفظ بعلاقات طيبة مع الغرب ويكون ملما إلماما واسعا بدواخل عالم التمويل العالمي. وكذلك فإن سمعة فياض المتمثلة في النزاهة والشفافية تساعده هي الأخرى. وهو ليس هيابا في أن ينسب إلى نفسه التحسينات التي حدثت وأصبح حضوره بارزا بصورة دائمة في كل أنحاء الضفة الغربية، حيث يبدو مبتسما أمام الكاميرات ويقوم بقطع الكثير من الأشرطة الحمراء إيذانا بافتتاح المشاريع الجديدة. رحلاته الميدانية تشبه إلى حد كبير الأيام الأخيرة لحملة سياسية، مع أن الانتخابات هنا ليست مقررة قبل يناير العام المقبل. وفيما كانت سيارته المرسيدس المصفحة تسير صاعدة في الطرقات الملتوية عبر التلال الصخرية حول مدينة جنين، سألته عن نوع المنصب الذي يقوم بحملته السياسية هذه من أجل الفوز به. وقال لي إن «جزءا مما علينا القيام به هو أن نواصل القيام بحملة سياسية على مدار السنة». ولكنه لم يقل إن كان قد درس المفهوم الأمريكي الحديث المتمثل في «الحملة الدائمة» خلال سنواته التي أمضاها في واشنطن، ولكن الأكيد أن ذلك شيء لم يكتسبه خلال إقامته في رام الله. وقال: «إن هذا نهج جديد. وهو أفضل من الجلوس وراء مكتب طوال اليوم». قطرات العرق تكثفت على شفته وذقنه. وأنزلت الستائر السوداء على نوافذ سيارته. وفور ذلك قفز نازلا من السيارة حيث قام بقص شريط أحمر وصافح بعض الأيدي ثم عاد مسرعا إلى مقعده في السيارة. وفي وقت لاحق، وبعد توقف آخر لافتتاح مكتبة عامة، نظر إلى المقعد الخلفي في سيارته المرسيدس. وقال بهدوء: «لا أستطيع أن أجد سجائري». أحد حراسه الشخصيين المكتنزي البنية الذي كان يرتدي بدلة مقلمة قام بفتح خزانة السيارة الأمامية لتبدو منها رزمة من خمس علب سجائر وينستون ملفوفة بعناية خاصة. وبعد أن حصل على بعض الراحة من السيجارة التي بدأ يدخنها، سألته عن الاتهامات التي يوجهها الناشطون الحقوقيون له, فقال: «نحن لسنا دولة بوليسية، مع كل احترامي. أتفهم جوهر [الانتقاد], بأن العقرب قد استدار بصورة حادة. ولكن كان من الضروري حدوث ذلك. هذه البلاد كانت سائرة إلى الدمار إلى أن يتم اتخاذ خطوات حاسمة». رئيس الوزراء كان أمضى شبابه هاربا من الفوضى. فهو ترعرع في مدينة طولكرم بالضفة الغربية، وكان في عمر الـ15 حين اجتاحت القوات الإسرائيلية المنطقة عام 1967، هازمة الجيوش العربية في حرب الأيام الستة. ويقول: «كان ذلك أمرا مخيفا حقا»، مستذكرا أصوات وسقوط قذائف الهاون بالقرب من منزله. إحدى القذائف كسرت زجاج نوافذ غرفة نومه. وبعد وقت قصير من توقف القتال، قام والد فياض بنقل العائلة إلى مدينة إربد الأردنية. وحين حان وقت التحاقه بالجامعة في مطلع سبعينات القرن الماضي، اتجه شمالا إلى بيروت حيث درس العلوم وبعدها الاقتصاد في الجامعة الأمريكية. ولكن بحلول أواسط السبعينات من القرن الماضي، بدأت الحرب الأهلية اللبنانية تستعر. وقال لي فياض عن تلك الحرب: «كانت فعلا شنيعة». سقطت إحدى قذائف الهاون على الحرم الجامعي. أراد فياض الخروج من هناك. اتصل بصديق في ولاية تكساس ليستفسر له عن دراسة الاقتصاد هناك، ولكنه كان قد تأخر عن مواعيد تقديم الطلبات للالتحاق بالجامعة. وقال لي إنه أبلغ صديقه: «خلاص، أريد المجيء الآن». سافر بالطائرة إلى أمريكا والتحق بفصول دراسية ليلية في جامعة أمريكية. بعد أن حصل على الدكتوراه، حصل فياض على وظيفة في فرع لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في مدينة سانت لويس، ثم انتقل بعدها إلى واشنطن. ولكن عام 1993 وقع ياسر عرفات اتفاقات أوسلو مع إسرائيل التي أسست السلطة الفلسطينية. وكان فياض يريد العودة إلى الوطن. وبعد سنتين عرضت عليه وظيفة مسؤول اتصال صندوق النقد الدولي مع السلطة الفلسطينية، وفي عام 2002، اختاره عرفات ليكون وزير المالية. كانت لدى عرفات أفكاره الخاصة عن الحوكمة الفعالة في الأراضي الفلسطينية. ولكن تلك الأفكار عادة لم تكن مفهومة إلا له شخصيا. وبمعنى معين كان الزعيم الفلسطيني نوعا من أمراء الفوضى، معتمدا على الانقسامات بين مساعديه من أجل ترسيخ حكمه. وكإشارة إلى تصرفاته المبهمة المتناقضة أحيانا، بدأ مساعدو الزعيم الفدائي الفلسطيني يلقبونه بـ»السيد نعم ــ لا». وبطريقة ما، فإن حياة فياض المهنية كلها هي نوع من الإدانة لطريقة حكم عرفات التي كانت تفتقر للشفافية. بل إن تصرفات الرجلين السطحية لا يمكن أن تكون أكثر اختلافا. فعرفات عاش حياة متنسكة، حياة بسيطة، وكان قد أطلق لذقنه غير الكثيفة العنان لتنمو دون أي تشذيب. أما فياض فيحلق ذقنه يوميا ويفضل البدلات الإيطالية والقمصان الفرنسية وربطات ويندسور. وخلال فوضى الانتفاضة لم يكن هناك شيء يمكنه تحقيقه من تحدي عرفات مباشرة. ولكن فياض تلمس فرصة للبدء بهدوء في تشذيب سلطته. كانت حكومة عرفات قد أصبحت فاسدة بصورة لا رجاء فيها. رؤساء الأجهزة الأمنية كانوا يحصلون على مخصصاتهم المالية على هيئة رزم من الأوراق النقدية في أكياس بلاستيكية, وهو ما كان يمثل نوعا من الدعوة لهم لابتزاز المال العام. بوصفه وزيرا للمالية، دفع فياض باتجاه أن يتم دفع المرتبات عن طريق الإيداع البنكي المباشر في حسابات الجنود والشرطة، متخلصا بذلك من إغراء قيام قادتهم باقتطاع أجزاء من هذه المرتبات. وقام كذلك بتخفيض المرتبات العالية التي كان يستعملها عرفات للحفاظ على ولاء مساعديه. ويقال إن فياض أقنع زوجة عرفات المسرفة، سها، بخفض مرتبها الذي كان يزيد على 100 ألف دولار بصورة كبيرة. (حين سألت فياض عن هذا، قال إنه لا يتذكر هذه الحادثة). وحين قرر أن يكسر احتكار الحكومة الفلسطينية لمبيعات الوقود، ذهب فياض ببساطة إلى مكتب الكارتل الذي كان مشرفا على تلك المبيعات في غزة وطلب الاطلاع على سجلاته الحسابية. وقال مستذكرا إن ذلك «كان كما الانقلاب». وحين سيطرت حماس على قطاع غزة في يونيو 2007، لم يكن فياض الخيار الواضح لترؤس حكومة الضفة الغربية. الرئيس عباس واجه معضلة صعبة. أحد الاتجاهات جادل بضرورة التصالح مع حماس وتشكيل حكومة وحدة فلسطينية مع الرجال الذين هزموا قواته في غزة. ولكنه بدلا من ذلك، قرر الرئيس عباس التركيز على تطوير الأراضي التي كانت لاتزال تحت سيطرته. وكان الأمل هو أن الضفة الغربية المزدهرة ستكون في نهاية الأمر المثال على ما هو ممكن للفلسطينيين، وهو ما سيجتذب أهل غزة ثانية إلى حضن السلطة الفلسطينية. وكان المال مفتاح ذلك. وبالنسبة إلى عباس بدا فياض بأنه الرجل الذي يحظى بما يكفي من المصداقية في الغرب لجمع الأموال اللازمة لذلك. كان فياض قلقا جدا إزاء منصبه الجديد إلى حد أنه سجل خطابه الافتتاحي لعهده بدلا من إلقائه حيا خوفا من أن يتجمد أمام الحضور والميكروفون. وخشي بعض مسؤولي أمن رئيس الوزراء من أن حماس يمكن أن تحاول السيطرة على الضفة الغربية بعد غزة. واندلعت الاشتباكات المسلحة حتى في مدن هي آمنة في العادة مثل رام الله. وقال لي فياض ونحن نجلس في مكتبه في إحدى الأمسيات هذا الصيف: «هذا المبنى تعرض للهجوم من قبل المسلحين. هذا المبنى بالذات»! رئيس الوزراء ليس لديه أي خلفية في الشؤون العسكرية. بل إنه لم يستعمل السلاح في حياته. ومع ذلك فإن واحدا من أول قراراته التي اتخذها بوصفه رئيسا للوزراء هو إرسال قوات أمن السلطة الفلسطينية إلى مدينة نابلس، معقل تنظيم شهداء الأقصى وغيره من المليشيات الخارجة على القانون. وقال لي: «قررت أن أزج بكل ما كنا نملك في مكان واحد، وهو ما كان مخالفا لنصيحة كل الذين أعرفهم». المساعدون كانوا يريدون من فياض أن يبدأ بمدينة أصغر وأقل هشاشة مثل أريحا. ولكن مقامرته نجحت. فقد تمت تهدئة نابلس بسرعة وتم وصف فياض بأنه مثال جديد للقيادة الفلسطينية. وقال مستذكرا إن «المكافأة كانت هائلة جدا». قوات فياض، الممولة والمجهزة بفضل تمويل المانحين الغربيين، انطلقت عبر أنحاء الضفة الغربية المختلفة. العمل بصورة وثيقة مع الأمريكيين كان ولايزال خطرا من الناحية السياسية لفياض. فالفلسطينيون حساسون بصورة عميقة لتهمة التعاون مع الولايات المتحدة، والأكثر منها مع إسرائيل. فياض مقرب من الكثير من الإسرائيليين» فهو ذات مرة جلس إلى جانب أرييل شارون في حفلة زواج حيث تبادل الرجلان أطراف الحديث الودي. ولكن عليه أن ينأى بنفسه بعيدا عنهم الآن. وقال لي فياض إنه إذا كثف الإسرائيليون غاراتهم على الضفة الغربية في الوقت نفسه الذي ترسخ فيه قواته سيطرتها على هذه المنطقة، «فإن هذا سيبدو وكأنه عمل فرعي نقوم به لحساب الإسرائيليين». وأضاف: «وتعرف ما يصاحب ذلك. لن يحتاج الأمر إلى عبقري لمعرفة ذلك». ففي أعين الفلسطينيين، كان فياض سيبدأ بسرعة بالتحول من بطل إلى أضحوكة. الإسلاميون مازالوا يتمتعون بقدر كبير من التعاطف والتأييد من قبل الفلسطينيين العاديين، بمن في ذلك بعض مؤيدي حركة فتح العلمانية. فهؤلاء معجبون بهم بسبب روحية المقاومة لديهم وبسبب شبكة الخدمات الاجتماعية التي أقاموها. وقد واصلت القوات الأمنية الفلسطينية القيام بعملياتها العسكرية ضد خصومها الإسلاميين دون توقف. ولكن ناشطا حقوقيا فلسطينيا فضل عدم ذكر اسمه لتجنب إغضاب فياض، قال إن «ما هو أسوأ هو حجم الاعتقالات العشوائية، فهي بالمئات الآن». وقال لي ذلك الناشط إن قوات أمن السلطة الفلسطينية قامت أيضا ــ إلى حد كبير ــ بتدمير المؤسسات الفلسطينية المدنية المشتبه في أنها مرتبطة بحركة حماس. وقال إن أكثر من 400 معلم طردوا من وظائفهم منذ نوفمبر العام الماضي. ولكن فياض بدوره رفض كل هذه الاتهامات. وقال لي بينما كانت سيارته المرسيدس تسير في طرقات التلال المحيطة بمدينة جنين: «إننا لا نقوم بملاحقتهم سياسيا. هذا سيكون عملا غبيا». ومع ذلك، فإن فياض استعمل أحد الأساليب التكساسية الشائعة المتسمة بالغطرسة في معركته مع المتشددين الإسلاميين. فالصراع مع حماس بلغ أوجه في إحدى الليالي في شهر مايو حين قامت مجموعة من قوات أمن السلطة بمطاردة حفنة من المسلحين بالقرب من مدينة قلقيلية في الضفة الغربية. وظلت قوات فياض تطارد مجموعة حماس المسلحة حتى دخلت منزلها الآمن وتحصنت فيه. ويتذكر رئيس الوزراء قوله لمستشاره لشؤون الأمن القومي: «هناك نتيجة واحدة من اثنتين مقبولة لدي، إما أن يغادر هؤلاء المنزل وأيديهم مرفوعة على رؤوسهم مستسلمين، وإلا ما يجب أن يحدث يجب أن يحدث». في نحو الساعة السادسة والربع صباحا اتصل أحد الضباط الفلسطينيين بفياض ليبلغه بأن «المهمة قد انتهت تقريبا». وفيما كانت شمس ذلك النهار قد بدأت بالبزوغ، قامت قوات السلطة باقتحام المنزل، وقتلت المسلحين بداخله. الخبراء الأمنيون الذين تحدثت إليهم، بمن فيهم ضابط مخابرات كبير مؤيد لفياض، انتقدوا تلك العملية بالإجماع. وأصر هؤلاء على أنه كان على قوات السلطة الفلسطينية أن تمنح المسلحين مزيدا من الوقت قبل اقتحام المنزل. حين سألت فياض عن ذلك، هز كتفيه قائلا إنه يعتقد أن العملية وجهت رسالة واضحة. وقال بهدوء: «ما نقوم به هو عمل حقيقي. لا اعتذار هنا». فياض يتحدث كل ليلة تقريبا مع زميلته السابقة حنان عشراوي، السياسية والناشطة الحقوقية الفلسطينية. قبل بضع سنوات شكل الاثنان لفترة قصيرة حزب الطريق الثالث لتحدي كل من فتح وحماس. عشراوي امرأة صريحة، متعنتة في آرائها، وحين التقيت معها في مكتبها برام الله في صباح أحد الأيام الأخيرة، أطلعتني على بعض دواعي القلق بشأن مدى جهود الإصلاح التي يقوم بها فياض. وقالت لي: «إنني قلقة بشأن الاشتطاطات. إنني متأكدة أن احتمال سجن شخص يحمل السلاح وينتمي إلى حماس هو أكبر من احتمال سجن شخص آخر يحمل السلاح وينتمي إلى فتح». وقالت إنه ينبغي لفياض أن يبقي على رؤساء أجهزته الأمنية خاضعين للمحاسبة. وقالت: «لقد ذهبت إليه وقلت له إن عليه أن يكون حازما جدا». وقالت عشراوي إنه أمر مبالغ فيه القول إن الضفة الغربية أصبحت دولة بوليسية. ولكنها تعتقد أنه كان يمكن تجنب الكثير من الحوادث الأكثر إشاعة للانقسام. ومن بين تلك الحوادث قرار إغلاق مكاتب شبكة الجزيرة في رام الله لفترة قصيرة بعد قيام المحطة ببث تقرير تضمن انتقادات لمسؤولين كبار في فتح. ولكن فياض يقول إنه اتخذ القرار من أجل حماية مكتب المحطة. وقال فياض مستذكرا ذلك لاحقا: «لسوء الحظ، في عملي لا تكون الخيارات غالبا بين الجيد والسيئ، بل بين السيئ والأسوأ». ولكن عشراوي تصر على أنه كان يمكن إرسال قوات الشرطة إلى المكتب لحمايته بدلا من إغلاقه. وقالت: «ما حدث كان تصحيح خطأ بارتكاب آخر». حتى القرارات الجيدة يمكن أن تكون لها تبعات سيئة. فياض شخصية محببة، وتصوره لمستقبل الضفة الغربية هو تصور جذاب. وهو تكنوقراطي مجد بصورة استثنائية، كما أنه رجل صادق ونزيه. ولكن القرارات نفسها التي تؤدي إلى تحسين الأمن على الأرض في الضفة الغربية تزيد من صعوبة المصالحة مع الإسلاميين في غزة. وقال فياض إنه بدأ يعتقد أن مثل هذا التقارب لم يعد واقعيا في المستقبل القريب، مع أن هناك الكثير من الفلسطينيين المتعقلين والدبلوماسيين الدوليين الذين يختلفون معه في ذلك. وكذلك فإن الصفات والأفعال التي تجعل من فياض جذابا لدى الأمريكيين هي نفسها التي يمكن أن تدمره عند صناديق الاقتراع. وقالت لي عشراوي إنه «ليس زعيما شعبويا، ولا أريده أن يصبح واحدا من هؤلاء. فهو لا يقصد أن يرضي أحدا ولا يقوم بأي من أعمال السمسرة الفاسدة وأنا أحب ذلك فيه». ومع ذلك، فإذا أراد فياض أن يبقي على شعبيته لأي فترة من الزمن، فإنه سيكون في نهاية المطاف بحاجة إلى نوع من التفويض من الفلسطينيين العاديين. وقال لي توني بلير: «في نهاية الأمر، ينبغي أن تتم الموافقة على ذلك في عملية انتخاب. وفي النهاية فإن أي مشروعية ستأتي من ممارسة الديموقراطية». وفيما كنا نقطع مسرعين الأراضي الفلسطينية الريفية التي كانت تتراءى لنا عبر نافذة سيارة مرسيدس رئيس الوزراء السوداء، أصر فياض على أنه لا يقوم بأي حملة سياسية من أجل أي منصب. وأضاف بنوع من الخجل إنه يقول ذلك «رغم أن هناك نفحة من الديموقراطية في هذا». وقال لي إنه يحاول أن يتفهم شكاوى الجماعات الحقوقية، ولكنه أيضا قال إنه قرر أن لا يرد على أي انتقاد يأتيه من خصومه السياسيين. وقال لي لاحقا، مشيرا إلى الحملة الأمنية التي قام بها وفرض النظام والأمن في الضفة الغربية من خلالها إنه «كان يجب أن يكون هناك أحد مستعدا للقيام بهذا في منتصف عام 2007. وإذا لم يكن ذلك أنا لكان يجب أن يكون هناك شخص آخر. الاحتمالات كانت مكدسة ضدنا. قليلون هم الاشخاص الذين كانوا يريدون القيام بذلك، لكي أكون صادقا معك». ولكن حتى الآن، فإن قوى الفوضى مازالت غير بعيدة عن السطح. رئيس الوزراء يعرف ذلك جيدا في قرارة نفسه. وهو يعتقد أنه يستطيع إبقاء الأمور تحت السيطرة، ولكنه يدرك أيضا أخطار الاعتقاد أنه بات شخصا لا غنى عنه. وقال لي: «أقولها لك, دعنا نقم بهذا. لنخض الانتخابات، ولا يهم من سيفوز. ليفز الشخص الأفضل. هناك آخرون يستطيعون القيام بهذا. إذا كان هذا هو ما سيحدث...». أخذ نفسا عميقا وبدا أنه بحاجة إلى سيجارة أخرى. وقال، بصورة غير متحمسة تماما: «صدقني، الناس سيتدافعون على باب مفتوح». عن Newsweek