أساتذة الجامعة يشحذون الملح..نسيم الخوري

الأحد 16 يناير 2022 09:24 ص / بتوقيت القدس +2GMT



تعيدنا ولادة هذا النص أو «موته» مجدّداً إلى العام 1975. إنّه تاريخ محفور بألسنة السياسيين وتستعيده ذاكرة اللبنانيين وكأنّه توأم لما نحن فيه من انهيارات ونكوص وانتظارات لخرائب جديدة في وطنهم المفتوح للتفكير والتعبير و»التعثير» من فعل تعثّر والتنقير والتفقير، نعم التفقير المدقع. بكلمتين رؤوس الناس مثل رؤوس شجر الحور وقد عصفت بها الرياح العاتية، تتمايل أعناقهم في الشوارع والساحات والمولات أمام جهنم الأسعار، وأمس تخطّى ثمن الأرغفة الـ 20 دولاراً ومعظم الناس يعيشون على الخبز. يستحيل تغطية انهيارات وطننا بغربال عندما نراهم يغرقون في طين الفساد اللزج وآثاره فاقعة على وجوههم. لا ولن يسري الحبر إلّا في دروب الصواب ولو كانت أعباؤه ثقيلة، ولنقل: إنّ الثنائي والثلاثي والرباعي، والمنفرطة مسابحهم، يصطادون اللبنانيين في قلب جروحهم لا يفرقون بين مواطن وآخر.
يعني هذا التاريخ 1975، إلى جانب الانهيار أمرين: جيل جديد من الشباب هرب قسراً من حضن أهله ووطنه حيث لا مستقبل، وجيل آخر يمتهن التسكع والعنف ولا يرى إلّا ذئاباً في لبنان. كتب لي أحد طلابي من الخليج: «صار الجرح عندكم وطناً، والمواطنون بحارة يضربون الملح في الشرايين والأجساد الممزقة، وانهار العقل والبحث، وما عاد حتى الحبر يألف الإقامة فيه يهمله المحيط العربي لكنه المحبوب».
وصلنا في السبعينيات طلاّباً استوينا على مقاعد «السربون» التي أسقطت الرئيس شارل ديغول في الـ 1968، وحصدنا فلسفة الثورة الطالبية والتغيير بقيادة أساتذة جامعيين ومفكرين، الأمر الذي فرّع «السربون» في مبانٍ متباعدة مرقمة بالاختصاصات. في لبنان أساتذة جامعيون يشحذون الملح، ويقفون على أبواب المستشفيات بعدما هرموا في الجامعات. كاتب السطور، أستاذ جامعي تخرّج وعلّم في «السربون» منذ أربعين عاماً ثم في الجامعة الوطنية. بلا خجل، أنا فقير وكلنا فقراء في بلدٍ تتأكله الفوضى والفراغات والكيديات والسرقات. وماذا بعد؟
ينتهي عملنا الأكاديمي مثلاً، وبدلاً من أن ننتظر تقييماً أو تكريماً، عليك أن تنزف كلّ يوم. لم ولن نحتسب حاملي شهادات الماجستير والدكتوراه من طلابنا وفيهم الضباط والمهندسون والمحامون والقضاة وكبار المدراء والنواب والوزراء وحتّى الرؤساء، الأستاذ نبيه برّي مثلاً خريج كلية الحقوق في الجامعة الوطنية، ورئيس اتحاد طلبة لبنان في زمن كان أشقاؤنا العرب يعرفون لبنان، وكتب فيه حزيناً الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بين صورتين متناقضتين لبيروت خلال خمسين عاماً. تخرّج أساتذة الجامعة اللبنانية من أرقى جامعات العالم ونهضوا بالتعليم العالي في لبنان، لكن الطوائف دمرته بعدما صار لكلّ حزبٍ ومذهب جامعته وتتوزع الشهادات العليا المزوّرة. معظمهم اليوم معدمون، خصوصاً المتقاعدين منهم الذين حسمت الدولة من رواتبهم التقاعدية واحتفظت في قجة الدولة لضمان آخرتهم، لكنهم كسّروا القجج وأفرغوا الخزائن نحو قصورهم والخارج.
بالمقابل، يلقي رؤساء الجامعات في الدول الراقية وعندكم في جامعات الخليج، خطبهم في نهاية كل عام، يتوجهون بها للمتخرجات والمتخرجين بما يعتبره الوسط الثقافي والسياسي محطة تحمل ملامح ونقاطاً مركزية لمستقبل عامٍ قادم للتطور والتحديث.
أصابت الأكاديميا عندنا الفيروسات الطائفية والحزبية، وعاد طلابنا يحفرون أسماء زعمائهم وصورهم وأسلحتهم على مقاعد الدراسة، واعتادوا على تسمية وطنهم «بالساحة» ويتناكفون حزبياً في الأحرام الجامعية، مع أنّ للساحات خطرها وأعباءها بعدما زالت عندنا المسافات بين المباح والمستباح.
لعلّ لبنان كان من أكثر الأوطان تعرّضاً لمدائح قديمة يستحقها، لا لأنّه كليم الجبل واليمّ، بل لخبرته الاتصالية العريقة مع الآخر التي خرطته في ثوب الثقافة العربية والعالميّة، على تنوّع نسجه، وهو يتعرّض لندوبٍ ونديبٍ ثقيل وخطير، ويبرك في مكانه بانتظار ربع العرب لا ربيعهم بعدما عبروا ببراعةٍ نحو العصر.
إننا نغرق فعلاً في الفقر وفي بحور من الكلام العربي والدولي الذي لا يقول شيئاً، ولا يفضي إلى حركة أو فكرة مجدية. نحن في قمّة العجز الذي يقودنا إلى الصمت أو تعداد الانهيارات وعرضها في النصوص. نعم الصمت مقابل الصوت، أو الأصوات الفارغة مقابل الكلمة والحركة المفيدة ونشوئها ومعانيها في بلدٍ فشلت فيه حتّى طاولة الحوار التي لطالما دعونا إليها في هذا المقام.
أعتذر أخيراً من أحرف الجرّ تصرخ في وجهي: كفانا جرّاً بكوارث لبنان، وأعتذر من أحرف العلّة لأنّها أحرف الصحة، وأعتذر أخيراً من الأبجدية والألسن المتعثرة والضم والنصب والفتح والكسر، وأرفع قبّعتي للسكون، فهو قبّة لبنان الوحيدة بانتظار أن يلثغ لبنان الجديد كلمته.