بقلم: يوحنان صورف "الأزمة التي تمر بها الحركة الوطنية الفلسطينية في السنوات الأخيرة بلغت حجوماً غير مسبوقة. مؤشراتها واضحة جداً في السنة الأخيرة على المستويات الفكرية، والقيادية، والتنظيمية. أبو مازن، رئيس م.ت.ف ورئيس السلطة الفلسطينية منذ 2005 يعاني من انعدام في شرعيته وصلته بالواقع. وتشير استطلاعات الرأي العام التي أجريت مؤخراً في أوساط الجمهور الفلسطيني، إلى أغلبية أكثر من 75 في المئة ممن يتطلعون إلى استقالته. وتجاوز الانتقاد الموجه ضده الخطوط والمعسكرات، ويتسلل عميقاً إلى حركة فتح، التي يقف هو على رأسها. كثيرون من رفاقه يلقون عليه الذنب في الانقسامات التي طاولت الحركة، وضعفها الشديد، ووهن العلاقة بينها وبين أبناء الجيل الشاب. كما أن مظاهر الفساد الكثيرة في أوساطها تبعث على الغضب الجماهيري الواسع.
المعضلة التي يقف أمامها كل فلسطيني ذي وعي سياسي اليوم هي: ما الطريق الصحيح لتحقيق الأهداف الوطنية، في ضوء فشل مسيرة أوسلو؟ وهل يمكن الاعتماد على طريق المقاومة المسلحة التي تنتهجها حماس والجهاد الإسلامي للوصول إلى دولة مستقلة؟ أم من الصواب انتظار نشوء دولة واحدة بين النهر والبحر، التي يؤمن الكثيرون بأنها لا بد ستأتي؟ فالتجربة تفيد بأن الكفاح المسلح جرب في الماضي دون أن يؤدي إلى الهدف. وحتى حماس، رغم تباهيها بأنها حركة مقاومة “تفرض” على إسرائيل ارادتها، لم تنجح في الـ 14 سنة من حكمها في قطاع غزة في التقدم في القضية الفلسطينية، وتسببت بدمار جم في قطاع غزة، وتعرضت لغضب جماهيري شديد. تسعى حماس في السنوات الأخيرة إلى المصالحة مع فتح، انطلاقاً إدراكها بأن ليس بوسع فصيل واحد أن يحقق استقلالاً سياسياً للفلسطينيين. والتقارب بين المنظمتين سينطوي على حلول وسط أوضحت حماس بأنها مستعدة لها، غير أن هذا ليس كافياً لإقناع أبو مازن.
لم تكن الـ 16 سنة لرئاسة أبو مازن مثابة فشل، فقد أدار في بعضها مفاوضات صادقة ومليئة بالثقة المتبادلة مع رئيس وزراء إسرائيل في حينه إيهود أولمرت، وبعث أملاً شديداً في أوساط شعبه، وواصل – رغم رفضه عروض أولمرت- التنسيق الأمني، ووثقه ومنع كل استخدام للعنف. وبالتوازي، بنى مع رئيس وزارته في حينه سلام فياض، بنية تحتية مؤسساتية واقتصادية لدولة على الطريق، فنشأت طبقة وسطى تمتعت بأمان تشغيلي واقتصادي يسهم حتى اليوم في استقرار أمني في الضفة الغربية. بفضل هذه الأعمال نالت السلطة الفلسطينية في العام 2012 اعتراف البنك الدولي بأهليتها لتقييم وقيادة دولة مستقلة.
غير أنه منذ صعود حكومات اليمين في إسرائيل عام 2009 يواجه أبو مازن محاولات التجاهل والدحر الإسرائيلية للقضية الفلسطينية عن جدول الأعمال المحلي والدولي. فعدم استجابة أبو مازن لعروض رئيس الوزراء أولمرت الواسعة، فسر كعدم اهتمام فلسطيني بتسوية سلمية. لم تخفِ هذه الحكومات عدم اهتمامها بمسيرة سياسية استخفت بأبو مازن، أما الشروط التي طرحتها لاستئناف المفاوضات فقد أثارت عدم ثقة ورفضها الفلسطينيون.
محاولة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لإجراء جولة مفاوضات أخرى في عامي 2013 – 2014 كانت محكومة مسبقاً بالفشل في ضوء أزمة الثقة بين إسرائيل والفلسطينيين، ورفض الفلسطينيين الاقتراحات التي وضعها كيري على الطاولة، والتوتر بين البيت الأبيض ورئيس الوزراء في حينه بنيامين نتنياهو. تبنت خطة القرن التي وضعتها إدارة ترامب عملياً مواقف اليمين الإسرائيلي، واتجهت لفرض مخطط للتسوية على الفلسطينيين مع علم واضح أنهم لن يقبلوه. غضبت الإدارة على الفلسطينيين بسبب رفضهم، واتخذت إجراءات عقابية، فقلصت معظم المساعدة الأمريكية، بل دفعت دولاً عربية لفعل ذلك. لا ينجح أبو مازن بالنهوض جراء هذه الضربة التي وجهتها الولايات المتحدة، والتي اعتبرت دوماً في نظر الفلسطينيين وسيطاً نزيهاً رغم ميلها المعروف في صالح إسرائيل.
في ضوء العزلة التي علقت فيها السلطة الفلسطينية، اضطر أبو مازن للتوجه إلى خطوات مقاربة مع حماس وباقي فصائل المعارضة. ولكن ما إن أدرك أنه قد يخسر انتخابات المجلس التشريعي التي بادر هو إليها، حتى قرر إلغاءها بدعوى أن إسرائيل لا تسمح بإجراء الانتخابات في القدس. وإلغاء الانتخابات التي كان يفترض أن تشكل ذروة عملية التقارب بين الفصائل الفلسطينية، هو أمر فاقم الشرخ في الساحة الفلسطينية، وعمق الانقسام في صفوف حركة “فتح”، ومس بمكانته الشخصية. بعد أن اعتقدت بأن إلغاء الانتخابات سلبها انتصاراً مؤكداً، بادرت حماس قبل الأوان إلى استفزازات حول المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح في القدس، كي تحدث مواجهة مع إسرائيل. وهي مواجهة منحت حماس تأييداً واسعاً وألقت بظلال ثقيلة على أبو مازن وحركة فتح، وفقدت م.ت.ف (المنظمة العليا العامة للفلسطينيين) مكانتها كممثل حصري للشعب الفلسطيني. بالمقابل، تتعزز حماس منذئذ في وعي الجمهور كبديل، رغم تحفظات كثيرة عليها. والدعوة المتكررة من حماس منذ 2017 للمصالحة الوطنية تثير الثقة في أوساط الجمهور، وتضع أبو مازن بصفة الحاجز الحصري أمام هذا الهدف.
في الواقع الناشئ، ثمة شك بأن تتمكن حركة فتح وحدها من قيادة م.ت.ف. لأنها ستكون مطالبة بالتصدي لمطلب حماس ومنظمات المعارضة الأخرى التي تكون جزءاً من القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني. صحيح أن أبو مازن هو الذي يتوسط الثغرة ويشترط كل خطوة كهذه بقبول الالتزامات التي أخذتها م.ت.ف على عاتقها، وكذا بوقف الكفاح المسلح وإخضاع السلاح تحت سلطة واحدة، ولكن مشكوك جداً أن تأتي من بعده شخصية من داخل حركة فتح تحظى بالشرعية ويطرح طلباً من هذا القبيل. يذكر أن أبو مازن يتمتع، في نظر حماس ومنظمات المعارضة الأخرى، بمكانة رئيس شرعي انتخب على أساس السياسة التي عرضها في حملة الانتخابات. وبقوة هذا الانتخاب يمكنه أن يعلن بين الحين والآخر أن التنسيق الأمني مقدس، والقرارات الدولية هي أساس لكل مفاوضات سياسية. ولكن بعد إلغاء الانتخابات، يتمنى الجميع رحيله، وبعده سيطلب الكثيرون إعادة انتظام للقيادة الفلسطينية التي تشدد مطالبها أساساً على الحاجة لتقليص فجوة انعدام التماثل بين الفلسطينيين وإسرائيل.
وعليه، ليس واضحاً على الإطلاق هل سيكون ممكناً مواصلة الحديث بتعابير التسوية. وهل ستبقى دعوات العودة إلى المفاوضات (ولا سيما من جانب مقربي أبو مازن ومحافل في الساحة الإقليمية، خصوصاً الأردن) ذات صلة. فالتطلع لتقليص عدم التماثل بين إسرائيل والفلسطينيين سينطوي على وقفة قوة أكبر تجاه إسرائيل لتغيير شروط بدء المفاوضات، وذلك بسبب الاعتراف المتسع بفشل طريق أبو مازن التصالحي ظاهراً. ومن تعبيرات ذلك توسيع مستوى الاحتكاك ومجالاته بين جنود الجيش والفلسطينيين في الضفة الغربية على أساس النمط الغزي، أي الاحتكاك الجسدي القريب دون سلاح ناري، والتي تخلق نتائجه ضغطاً دولياً ثقيلاً على إسرائيل.
ألا يزال ممكناً حرف الساحة الفلسطينية عن الاتجاه الذي تسير نحوه، أم أنها مسيرة لا مرد لها؟ لقد بين سلوك إدارة ترامب أن الضغط الشديد جداً على الفلسطينيين يقرب بين المعسكرات المتخاصمة في هذه الساحة، كما بين أن عطف أمريكا الكبير على إسرائيل وتضامنها من مع مواقفها يضعف الطرف الفلسطيني لدرجة المس بأداء دوره في التنسيق الأمني وبمكانته كشريك محتمل في المفاوضات السياسية.
يذكر أن حركة فتح تعتمد في المنافسة مع حماس، على تحالف كل الجهات التي عملت على مسيرة أوسلو، ومن بينها الولايات المتحدة ودول أخرى كثيرة في الساحة الدولية، والتي اعترفت السلطة الفلسطينية و م.ت.ف بالمحافل الدولية المهمة، التي تمد يد العون الكثير للفلسطينيين. وينبغي أن تضاف إلى هذه القائمة الدول العربية المعتدلة التي ساندت المسيرة السياسية من بدايتها. وتعدّ م.ت.ف بخلاف حماس، جزءاً من هذا المعسكر. إن للمساعدة التي تقدم للسلطة دوراً مهماً في ضمان استقرارها واستقرار الوضع الأمني في الضفة الغربية، ولإسرائيل أيضاً دور في ذلك. ومجرد الحوار معها، حين يكون بناء وصادقاً، يمنح السلطة الفلسطينية ورئيسها الشرعية، دليلاً على صحة طريقهم حيال الخصوم السياسيين ويزرع الأمل في الجمهور الفلسطيني.
والحال هذه، فإن الخطوة الواجبة لمنع فقدان خيار التسوية هي تجنيد كل المحافل المذكورة أعلاه لإعادة بدء المسيرة من جديد، بحيث تطرح أفقاً سياسياً واضحاً، وتوضح بأن المسألة الفلسطينية لم تشطب عن جدول الأعمال، وتعرب عن الثقة بكل قيادة وطنية فلسطينية تكون ملتزمة بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل وبالتزامات م.ت.ف في هذا السياق. حتى ذلك الحين، خيراً تفعل إسرائيل إذا لم تعارض استئناف العلاقات بين م.ت.ف والولايات المتحدة، بما في ذلك استئناف المساعدة للسلطة الفلسطينية، وإعادة فتح سفارة م.ت.ف في واشنطن، وفتح القنصلية التي أغلقت في شرقي القدس في مكان توافق عليه إسرائيل أيضاً، على أن يكون فيه ما يوضح من جديد بأن مستقبل شرقي القدس سيتقرر في المفاوضات. على إسرائيل من جهتها، أن توضح بأن لا مصلحة لها في انهيار السلطة الفلسطينية، وأنها تقدر التعاون الجاري معها في المجال الأمني، وأن لها مصلحة في حوار يوسع التعاون إلى مجالات أخرى أيضاً.