لماذا ألزمت إسرائيل نفسها بخيار “إدارة الصراع” وفقاً لمنطق حماس؟

الأربعاء 01 سبتمبر 2021 05:54 م / بتوقيت القدس +2GMT
لماذا ألزمت إسرائيل نفسها بخيار “إدارة الصراع” وفقاً لمنطق حماس؟



القدس المحتلة / سما /

بقلم: أودي ديكل             "السبت 21 آب، توجه آلاف الفلسطينيين إلى الجدار الفاصل على حدود إسرائيل – قطاع غزة، في مظاهرة نظمتها حماس مع باقي الفصائل في القطاع لإحياء يوم ذكرى إحراق المسجد الأقصى (على أيدي شاب أسترالي في 1969). وهكذا نفذت حماس تهديدها لإشعال الحدود مرة أخرى مع إسرائيل، وتجري مظاهرات عنيفة قرب الجدار الأمني. صعد مئات الفلسطينيين وألقوا الزجاجات الحارقة والعبوات ورشقوا الحجارة على قوة الجيش الإسرائيلي، وأصيب مقاتل من حرس الحدود بجروح حرجة بنار فلسطيني عبر ثغرة في السور، وبعد بضعة أيام تقررت وفاته. في المواجهة التي نشأت، قتل شاب فلسطيني وأصيب نحو 40 بنار قوات الجيش الإسرائيلي. ومنذئذ، تتواصل مساعي التحرش من القطاع بإطلاق البالونات الحارقة نحو حقول البلدات في منطقة غلاف غزة، وكذا المظاهرات قرب الجدار الأمني. وصرح نائب رئيس المكتب السياسي لحماس في القطاع، خليل الحية، قائلاً إن حماس لا تخاف إسرائيل وأن على الأمة العربية تصعيد جهودها لوضع حد لـ “الاحتلال”. وأضاف بأن المعركة منذ المواجهة الأخيرة تستأنف وتتواصل.

كان هذا الحدث هو الأكثر عنفاً منذ “حارس الأسوار” – فترة ثلاثة أشهر، ساد فيها الهدوء النسبي رغم القيود التي فرضتها إسرائيل على قطاع غزة، بهدف حرمان حماس من أي إنجاز مقارنة بالوضع الذي ساد فيه عشية الحملة. بدأت حماس تبادر إلى إحداث ومواجهات عنيفة ضد إسرائيل (إطلاق صاروخين، إطلاق بالونات حارقة، إطلاق النار ضد الطائرات ومواجهات على الجدار الأمني) بالذات في الأسبوع إياه الذي سجل فيه إنجاز لها حين أعلنت إسرائيل عن اتخاذ تسهيلات واضحة في سياسة الإغلاق: إيجاد آلية لتحويل المال القطري عبر الأمم المتحدة؛ والإذن بدخول 1.800 عامل يومياً إلى إسرائيل، إضافة إلى ذلك نية توسيع هذا العدد بآلاف أخرى في الأسابيع القادمة، وتوسيع تنوع البضائع التي تدخل إلى القطاع (مواد بناء – لأول مرة منذ الحملة، سيارات وشاحنات، قطع غيار، أجهزة خلوية)؛ وزيادة التصدير من القطاع (في مجالات الزراعة النسيج والأثاث).

س

الناطقون بلسان حماس، وفقاً للطريقة المعروفة لشرح إطلاق الصواريخ على إسرائيل كـ “خلل”، أوضحوا بأن النار التي وجهت نحو مقاتل حرس الحدود كانت مبادرة شخص فرد، وليست عملاً مخططاً مسبقاً، وأنه لم تكن أي نية للوصول إلى مواجهات عنيفة؛ وأن هذه نبعت من غضب الجمهور الفلسطيني عقب الوضع الإنساني الخطير السائد في القطاع. إلى جانب ذلك، أعلنوا عن تنفيذ خطة مرتبة لسلسلة أعمال لاحقاً، وذلك ضمن مطلب رفع “الحصار” عن القطاع وكتعبير عن التزام المنظمة بالقدس، بشعار: “سيف القدس لن يغمد أبداً”. واصلت آلة الدعاية لدى حماس إطلاق وابل من الرسائل: “لن تسكت غزة عن “العدوان الاقتصادي” الذي تمارسه إسرائيل ولن تقبل الابتزاز الإسرائيلي”؛ “وإن تملص إسرائيل من الالتزامات التي تحققت وتملصها من رفع “الحصار” عن قطاع غزة سيؤدي إلى عودة النشاطات الشعبية التي توقفت في 2021″؛ “وإن استمرار “الحصار” على القطاع قد يدفع الفلسطينيين إلى أعمال أخرى لا يمكن توقعها مسبقاً”، وغيرها.

في إسرائيل، يبحث الجانب “العقلاني” المزعوم في المعادلة عن المنطق الذي يوجه سلوك حماس وزعيمها في القطاع يحيى السنوار، ويعزون له اضطراباً في التفكر، ويقدرون بأن ما تحركه هي مشاعر مسيحانية. مصر هي الأخرى غضبت لأن حماس سحبت من أيديها إنجازاً حيال إدارة بايدن، في شكل قدرتها على إحلال الهدوء في ساحة القطاع. وتعاظم الغضب المصري بسبب خيار حماس “ركل الدلو”، في ظل خرق تعهدها بمنع التصعيد في القطاع، خصوصاً في أثناء تقدم مساعي الوساطة. وكانت مصر أغلقت معبر رفح لعدة أيام في أعقاب الأحداث.

بالنسبة للسنوار، يبدو أن فهمه للواقع اجتاز تغييراً جذرياً؛ فبعد أن انتخب زعيماً لحماس في القطاع، حاول أن يحسن الوضع المدني والاقتصادي في المنطقة في ثلاث قنوات: حيال محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية – بمبادرة المصالحة بين الفصائل في 2017، وفيها أبدى استعداداً لإعادة الإدارة المدنية في القطاع (وإن لم يكن السيطرة الأمنية) للسلطة. أما حيال إسرائيل فحاول بلورة تفاهمات بوقف نار طويل مقابل إعمار القطاع، ورفع “الحصار” (بتعبيره)، وصفقة تبادل أسرى ومفقودين. وحاول حيال مصر، تحسين صورته في ظل عرضه كلاعب مسؤول، لن يتحدى المصريين ويوقف المساعدة لمحافل الإرهاب في سيناء. القناتان -حيال عباس وإسرائيل- سدتا، كما فشلت أيضاً محاولة مصر العمل على رفع “الحصار” وصفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل. ليس هذا فقط، بل كاد السنوار يسقط في الانتخابات على قيادة حماس في القطاع، التي أجريت في بداية السنة. علمته التجربة بأن عندما يكون الوضع هادئاً وصامتاً ليس لإسرائيل سبب لتخفيف القيود المفروضة على القطاع أو التقدم إلى التسوية. والسبيل الوحيد لـ”ابتزاز” التسهيلات من إسرائيل هو المبادرة إلى أحداث غير متوقعة وتفعيل القوة من القطاع. وبخصوص دافع حماس الحالي لأحداث التصعيد، فقد تفاقم استياء المنظمة من الوضع، لأن نجاحاتها المزعومة في “حارس الأسوار” لم تترجم إلى إنجازات في إعمار القطاع. كما أن آلية تحويل المال القطري عبر الأمم المتحدة تجاوز تحويل الأموال لموظفيها ولهيئاتها المختلفة في القطاع. وبالتالي، من ناحيتها، فإن وسيلة الضغط الوحيدة التي تحت تصرفها هي قوة الضرر، المعتمدة على السلوك غير المتوقع وتجد تعبيرها مثلاً في إطلاق الصواريخ نحو القدس، والتي كانت رصاصة البدء لحملة “حارس الأسوار”، أو في التصعيد الذي وقع في الأيام الأخيرة. تسعى حماس لاستنزاف بل وسحق إسرائيل من خلال معركة متواصلة من التحرش غير المنقطع، على نحو متقطع ومن عدة ساحات – إرهاب وعنف شعبي من القطاع، وتحريض على أعمال الشغب في القدس، وإطلاق الصواريخ من لبنان، وتشجيع الإرهاب في الضفة الغربية. كل هذا، على أساس تقديرها بأن ليس في نية إسرائيل التحدث الآن عن مواجهة عسكرية واسعة في القطاع.

خلاصة وتوصيات

حان الوقت لتغير إسرائيل قواعد اللعب، وتكف عن أن تكون متوقعة، وأن تسلك سياسة مبادرة وحازمة. في اللعبة الحالية للسعي إلى التفاهمات بل وإلى التسوية مع حماس، تعزز إسرائيل مكانتها كالقوة السياسية المتصدرة في المعسكر الفلسطيني، وبالضرورة تضعف السلطة الفلسطينية وتساهم بعرضها كغير ذات صلة كشريك لتسوية سياسية، في ظل مس إضافي بشرعيتها. منعاً لهذه التداعيات السلبية وغير المرغوب فيها بالتوازي مع تعطيل قوة الضرر لدى حماس، على إسرائيل أن تدرس بديلين لم يبحث فيهما بعمق حتى الآن:

1*قطع تام لقطاع غزة عن إسرائيل– إغلاق مطبق للمعابر بين القطاع وإسرائيل. يتطابق هذا البديل مع سياسة العزل بين مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وبين قطاع غزة الذي تحت سيطرة حماس، ويستوجب بالتوازي تعزيز أداء السلطة في الضفة الغربية. ستكون حماس مطالبة بأن تولي اهتماماً بمجالات مدنية والاستثمار فيها، عقب التردي المتوقع في الوضع، على حساب السعي إلى تنفيذ رؤياها المتعلقة بـ “المقاومة”. لهذا البديل مواضع ضعف، إذ إنه لن يمنع استمرار الاحتكاك بين حماس وفصائل أخرى تعمل في منطقة القطاع وسكانه وبين إسرائيل؛ سيستوجب من إسرائيل انتهاج تسهيلات في الإغلاق البحري بسبب الضغط الدولي للسماح بوصول المساعدة الإنسانية للقطاع من البحر؛ وهو كفيل بأن يحدث توتراً مع مصر، التي ستصبح رغم أنفها ورغم استيائها (قناة الحياة) الوحيدة للقطاع، وعملياً المسؤولة عن الوضع هناك.

2*معركة متواصلة ضد شبكات الإرهاب في القطاع– في ظل استغلال الأحداث الهجومية التي تبادر إليها حماس لتشديد قوة الهجوم الإسرائيلية وتنوع مظاهرها، فيما الغاية هي ضرب بناها التحتية، وقدراتها على الإنتاج وإطلاق الصواريخ، وذراعها العسكري، فإن المطلوب حينئذ هو التصميم والصبر وقدرة الامتصاص.

هذان البديلان، معاً وكل على حدة، كفيلان بأن يؤديا إلى ثلاثة مسارات تطور: الإيجابي – حماس ستصحو وستوافق على تفاهمات حول هدوء طويل وستلتزم بتعهداتها، وهي تفاهمات ستلزم إسرائيل بتسهيلات في الإغلاق وإعطاء الإذن لمشاريع إعمار القطاع؛ وهناك مسار تطور ثانٍ يؤدي إلى التدهور إلى معركة عسكرية، تستوجب مناورة برية عسكرية إسرائيلية إلى أراضي القطاع لغرض توجيه ضربة قاسية لدرجة تفكيك الذراع العسكري لحماس؛ والثالث استمرار إدارة النزاع، الذي في إطاره ترد إسرائيل في الغالب على الأعمال الاستفزازية لحماس في ظل التكيف بين الحين والآخر على فترات من الهدوء والتصعيد. إذا لم تكن لدى الطرف الإسرائيلي إرادة لتغيير قواعد اللعب وأخذ المخاطرة التي ينطوي عليها السلوك الفاعل وغير المتوقع، فيجب أن نفهم بأن تم اختيار المسار الثالث لإدارة النزاع واستمرار السلوك وفقاً لقواعد الابتزاز التي تقررها حماس.