رحل أحمد يعقوب، الشاعر والمترجم، صاحب الرحلة الغريبة، النموذجية بالنسبة للاجئ فلسطيني من مخيم اليرموك حيث بدأت علاقته مع الموسيقى والشعر في دمشق، يقول صديق له: إنه كان يعزف على البوق لينظم دخول التلاميذ إلى صفوفهم في مدرسة مخيم اليرموك، إلى كوبا حيث عثر على لغته الإسبانية النقية التي منحته فرصة الاطلاع على الأدب اللاتيني من منابعه، وأعطته القدرة على ترجمة بعض هذا الأدب إلى اللغة العربية، إلى بغداد حيث تأسست كتابته على جدل التجريب والذهاب في مغامرة الشعر إلى أبعد من يقينية السائد، وهو ما واصله حتى جلسته الأخيرة على مقهى الانشراح في "رام الله التحتا".
بهذه الحمولة وصل أحمد إلى رام الله، واصل علاقته مع الموسيقى وبدت مثل شأن شخصي تماماً، يشبه حقيبته التي يضيفها إلى أثاث الشقق المفروشة التي واصل تنقله بينها، وانشغل بالترجمة تحديداً البحث عن الشعراء الفلسطينيين من مهاجري الجيلين الأول والثاني إلى أميركا الجنوبية. عبر ترجماته تعرف القارئ الفلسطيني والعربي على أسماء مؤسسة في حركة الشعر اللاتيني، لعلني سأقف طويلاً أمام منجزه الباهر في ترجمة الفلسطيني/ التشيلي "أندراوس سابيلا" صاحب المجموعة المبكرة المدهشة "الأحذية"، والإضاءة على شاعر مؤسس قال عنه "بابلو نيرودا": بقدر ما أنا جنوبي سابيلا شمالي. وأضاف في موقع آخر: "بقي الشعر التشيلي واقفاً على قدم واحدة إلى أن أتى سابيلا فوقف على قدميه". كان ذلك اكتشافاً أدبياً وإضافة عميقة للمدونة الشعرية الفلسطينية والعربية لم تأخذ حقها في القراءة.
أضيف هذا الغياب الفاجع إلى جدول الخسارات المؤلمة، أضيفه كما هو دون تدخل وأواصل جمع النهار والاحتفاظ به لليل، هناك أعيد ترتيب الأشياء وأضع نفسي خارج الكتابة، كأن أمسك بيد المرأة التي استيقظت مبكرة لتلتقي "ببحر الفجر" قبل أن يصل "بحر الظهيرة". أجلس مع أبي، الذي مات من ثلاثين سنة في شرفة نزل كان يحبه في "برمانا". أعود إلى ذلك الأستوديو الصغير في "ساحة العباسيين" حيث نسيت مفاتيحي. أصغي، من جديد، لماكنة الأرملة وبناتها اليونانيات الثلاث في "مساكن برزة. حيث ستغني البنت الكبرى الممتلئة بصوت خفيض، التي قتلت في حادث سير على الطريق السريع.
أفسر لمحمود درويش سبب تغيبي عن موعدنا في ليلته الأخيرة في "رام الله". أنام ليلة ثالثة في بيت العائلة في "عمّان" بناء على رغبة أمي.
أصغي لعناية جابر وهي تغني على مائدة العشاء في مهرجان للشعر.
نركض أمجد ناصر وأنا تحت عاصفة من القذائف من "المزرعة" إلى "ساحة أبو شاكر"، أمجد الذي لم أره لفترة كافية في أيامه الأخيرة.
أخبر تلك المرأة المرتبكة كم أراها جميلة وشجاعة... وأجمع أعذارها كمن يجمع زهوراً من برية.
أقول لأحمد يعقوب، ما قلته له: إنه دون أن يقصد أضاف إلى عالمي "أندراوس سابيلا" بقلقه وسخريته وتراجيديته المذهلة.
الليل منزل واليقظة مسودّة النوم.