بينيت و«تقليص الصراع»: الحل ليس على الأجندة الإسرائيلية..سنية الحسيني

الخميس 05 أغسطس 2021 09:04 ص / بتوقيت القدس +2GMT



عندما تولى نفتالي بينيت رئاسة الحكومة الاسرائيلية استخدم مفهوما جديدا عرف بـ«تقليص الصراع» من ضمن المفردات السياسية التي استخدمها. لا يخرج مضمون ذلك المفهوم عن استراتيجية إدارة الصراع التي تتبناها حكومات دولة الاحتلال المختلفة في تعاملها مع الأراضي الفلسطينية وسكانها، إذ إن استراتيجية حل الصراع لم تكن يوماً على الأجندة الإسرائيلية، سواء كان ذلك في إطار أجندة اليمين أم اليسار الصهيوني، وسواء كان ذلك بعد احتلال العام ١٩٦٧ أو بعد توقيع اتفاق أوسلو العام ١٩٩٣. وتعكس نتائج استطلاع للرأي، أجري مؤخراً، الواقع الذي بات قائماً، اليوم، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ اعتقد ٧٥% من الفلسطينيين بانخفاض فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ودعم ٨٥% من الإسرائيليين ذلك التوجه باستبعادهم الوصول إلى حل مع الفلسطينيين، وأكد حوالي ٦٢% من الفلسطينيين أن حل الدولتين لم يعد ممكنا.
يعتبر مصطلح «تقليص الصراع» ظاهريا مصطلحا جديدا في القاموس السياسي الإسرائيلي، ابتكره ميخا غودمان أستاذ التاريخ الإسرائيلي، الذي يقدم المشورة السياسية لرئيس الوزراء الجديد. وطرح غودمان مصطلح «تقليص الصراع» لأول مرة العام ٢٠١٧، في كتابه تحت عنوان «مصيدة ٦٧». إلا أن مفهوم تقليص الصراع لغودمان لا يختلف كثيراً عما طرحه موشيه ديان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق حول «الاحتلال الخفي»، والذي قصد به الإبقاء على الاحتلال وسيطرته الفعلية على الأرض والسكان الفلسطينيين، لكن دون إشعارهم بذلك. ويعني غودمان بتقليص الصراع منح الفلسطينيين الانطباع بسيادة رمزية على أرضهم وإخفاء سيطرة الاحتلال عليها، بهدف تقليل احتكاك السكان الفلسطينيين به. ولا يتطلب تنفيذ مقاربة غودمان تفكيك الاحتلال فعلياً أو إخلاء ثلثي أراضي الضفة الغربية والمعروفة بمناطق «ج» أو حتى تقديم حلول سياسية للفلسطينيين، إذ يكفي تقديم تسهيلات حياتية واقتصادية للفلسطينيين، فيمكن لإسرائيل على سبيل المثال الاعتراف بدولة فلسطينية لكن دون الإقرار بحدودها.
وتختلف مقاربة غودمان لتقليص الصراع عن مفهوم «السلام الاقتصادي» الذي يتبناه بنيامين نتنياهو، في أنه يعتمد على تقديم تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين، في ظل منحهم مظاهر سيادة شكلية. ولا تخرج مقاربة غودمان لتقليص الصراع عن الإطار الذي تبنته إسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين عموماً، في الأراضي التي احتلتها العام ١٩٦٧، وطوال عهد احتلالها الذي تجاوز النصف القرن، والذي تجنبت خلالها إسرائيل بشكل كامل تقديم مبادرات تقوم على أساس حل الصراع مع الفلسطينيين وفق مبدأ حق تقرير المصير وتقديم حلول حقيقية في إطار قضية القدس واللاجئين والمياه والموارد الطبيعية. واعتمدت الحكومات الإسرائيلية المختلفة طرح مقاربات تقوم على أساس إدارة الصراع تمثلت في مبادرة مناحم بيغين رئيس الوزراء الإسرائيلي للحكم الذاتي في سياق اتفاقية كامب ديفيد العام ١٩٧٨، أو كان ذلك ضمن الفكرة التي طرحها ديان للاحتلال الخفي، أو جاء ذلك في إطار الحكم الذاتي المرحلي الذي جاء في إطار اتفاقية أوسلو العام ١٩٩٣، أو في إطار مفهوم تقليص الصراع لغودمان والذي يتبناه بينيت، اليوم.  
إن الرؤية الصهيونية التي تحكم سياسة الاحتلال وتوجهاته في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام ١٩٦٧ لا تقوم على أساس اقتسام الأرض مع الفلسطينيين بل على أساس السيطرة عليها، وتسيير حياة سكانها الفلسطينيين دون تكلفة كبيرة. إن ذلك يفسر سبب عدم تبني إسرائيل، على مدار أكثر من خمسين عاماً، إستراتيجية تقوم على أساس حل الصراع مع الفلسطينيين، سواء قبل توقيع اتفاق أوسلو العام ١٩٩٣ أو بعده، وسواء من قبل الحكومات اليمينية أو اليسارية الصهيونية في إسرائيل، وتبنيها في المقابل لإستراتيجيات تقوم على أساس إدارة الصراع. وتعتمد استراتيجيات إدارة الصراع بشكل مفرد وطويلة الأمد، التي تتبناها إسرائيل على عامل الوقت اللازم لتغيير الواقع على الأرض، وضمن تكلفة احتلال محدودة، تركز في الأساس على تجنب أو تأجيل المواجهة المباشرة مع الفلسطينيين أو تدجينها، بالحد من قدراتها أو تعجيزها، وبناء بنية مجتمعية نفسية تتقبل الواقع المتغير على الأرض. ويتطلب تحقيق هذه الاستراتيجية توفير شكل من أشكال التفاهم مع الاحتلال ضمن آلية تمكن الفلسطينيين من حكم أنفسهم، مع بقاء سيطرة الاحتلال الفعلية المباشرة أو غير المباشرة، وتقليص المواجهة أو الصراع معهم، بضبط حدود ومعطيات تلك المواجهة، وهو ما لا يخرج عما طرحته إسرائيل من مبادرات في الماضي ولا تزال تطرحه في الحاضر.  
منذ العام ١٩٦٧، عملت حكومات إسرائيل المتعددة على بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها، وتوسيع رقعتها وزيادة عدد سكانها من اليهود. ودشن حزب العمل ذلك المشروع بموجب «خطة الون» طوال العقد الأول من سنوات الاحتلال، ضمن اعتبارات أو محاججات أمنية. واستكمل حزب الليكود بعد تأسيسه ووصوله إلى السلطة العام ١٩٧٧ ذلك المشروع ضمن اعتبارات ومحاججات أيديولوجية أيضاً، وبات الاستيطان مباحاً في كل مكان داخل الأراضي المحتلة دون الحاجة حتى لتبريرات أمنية. لم يعطل توقيع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين العام ١٩٩٣ استكمال العمل بالمشروع التوسعي والتغلغلي الاستيطاني في الأراضي المحتلة، كما لم يتباين موقف حزب العمل، الذي قاد اتفاقات السلام مع الفلسطينيين، تجاه ذلك المشروع، عن موقف حزب الليكود، فازدادت مساحة المستوطنات وتضاعف عدد المستوطنين فيها ما بين عامي ١٩٩٣ و٢٠٠٠، وهي الفترة التي سيطر خلالها حزب العمل تقريباً على مقاليد الحكم في إسرائيل. (عهود رئاسة رابين وبيريس وباراك).
وأما عن رؤية إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل عن حزب العمل، الذي قاد عملية السلام مع الفلسطينيين ووقع معهم اتفاق أوسلو، فقد اعتبر أن الحلّ الدائم للصراع سيكون في إطار كيان أقلّ من دولة يدير حياةَ الفلسطينيّين، دون اقتلاع أيّ مستوطن أو تفكيك أي مستوطنة أو تجميد البناء فيها أو إعاقة نموها الطبيعيّ. كما أكد أن إسرائيل لن تعود إلى حدود الرابع من حزيران، مشدداً على أهمية التواجد الأمني الإسرائيلي في غور الأردنّ. واعتبر أن القدس المُوحَّدة عاصمة إسرائيل وتحت سيادتها وغير قابلة للتفاوض. وأكد أيهود أولمرت، عندما كان يشغل منصب رئيس بلدية القدس في ظل سنوات حكم رابين، على أنه حظي بدعم رئيس الوزراء فيما يتعلق بالإجراءات الإدارية والقانونية التي وجهت ضد بيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية الأخرى في القدس. ولا تختلف مواقف شمعون بيريس عن مواقف رابين السابقة تجاه الفلسطينيين، رغم مقاربته التي تبناها وروج لها والمتعلقة بمبدأ الأرض مقابل السلام، جوهر مقاربة حزب العمل واليسار في إسرائيل، والتي لم تخرج أبداً عن إستراتيجية إدارة الصراع مع الفلسطينيين لا حله، والتي لم تقدم يوماً مبادرة تحمل في طياتها استقلالا حقيقيا للفلسطينيين.
منذ مطلع الألفية الجديدة بات اليسار واليمين في إسرائيل يعملان ضمن نفس المقاربة المتمحورة حول مبدأ الأرض مقابل السلام والذي يأتي ضمن استراتيجيات إدارة الصراع، بعد أن شكل ذلك المبدأ جانب التمايز الحقيقي بين اليمين الذي تبنى سياسة رفض التنازل عن الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب ١٩٦٧. بات مبدأ الأرض مقابل السلام مدخلاً لتطبيق استراتيجيات إدارة الصراع مع الفلسطينيين ومحوراً لسياسة الطرفين، بدءاً من عهد شارون الذي قبل بإنشاء دولة فلسطينية وأبدى استعداده لتقديم «تنازلات مؤلمة» على حد تعبيره من أجل السلام، بعد أن تكشف للجميع أن مبدأ الأرض مقابل السلام لا يعني التنازل فعلياً عن الأرض للفلسطينيين، وإنما يعني السماح لهم بإدارتها فقط، انطلاقاً من اعتبارات ومبررات أمنية يطرحها اليسار واعتبارات ومبررات أيديولوجية يؤكد عليها اليمين.
ركزت تصريحات بيني غانتس وزير حرب دولة الاحتلال، ومسؤولين آخرين في حكومة بينيت - لابيد، على توجه الحكومة الإسرائيلية لدعم السلطة الفلسطينية وسائر القوى المعتدلة في المنطقة، بما يتوافق مع تصريحات المسؤولين الأميركيين، ضمن مداخل إنسانية واقتصادية تهدف لتحسين حياة الفلسطينيين. كما جاءت إشارات بينيت حول مفهوم تقليص الصراع، بما يبقي الوضع الفلسطيني ضمن المربع الأول المتمثل بإدارة الصراع مع الفلسطينيين لا حله.
في المقابل، وبعد ثلاثة عقود من اتفاق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تسيطر إسرائيل بالكامل على أكثر من ثلثي أراضي الضفة الغربية والتي يقيم فيها حوالي نصف مليون مستوطن، بينما يعيش حوالي ربع مليون مستوطن في القدس الشرقية التي تسيطر عليها إسرائيل سيطرة كاملة، والذي يشكل في مجموعة حوالي ١٠% من سكان إسرائيل. الحقيقة أننا، اليوم، بحاجة إلى إعادة التفكير بمقاربات خلاقة لحل الصراع مع إسرائيل.