استيقظت مدينة نيورك صباح الثامن عشر من مايو 2021 وعلى غير العادة على صور لضحايا العدوان الاسرائيلي الأخير على قطاع غزة تتوسط الصفحة الرئيسية للصحيفة الامريكية الأشهر تحت عنوان "كانوا مجرد اطفال" . هذا العدوان الأخير الذي وصفته مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ميشيل باشيليه "بجريمة حرب وانتهاك صارخ للقانون الدولي" في اخر استثنائية لمجلس حقوق الإنسان والتي اصدر خلالها قرارا يدعو إلى إنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة في العدوان الاسرائيلي بموافقة 24 عضوا، ومعارضة 9، وامتناع 14 عن التصويت. العدوان بدأ هذه المرة وإنتهى بشكل سريع نسبيا بعد احدي عشر يوما وعلى غير سابقاته من الحروب التي كانت تستمر لأسابيع وأشهر وتحصد الاف الارواح من الابرياء وتخلف دمارا شاملا ينهش اوصال القطاع. حيث انهي بوساطة مصرية فاعلة وقاسمة ومنجزة، تلاها قبولا وترحيبا امريكيا، اوروبيا، اقليميا، ودوليا للوصول لهذا الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ وسط ارتياح فلسطيني برغم الألم والضحايا والدمار. فقد تنفس قطاع غزة الصعداء بعد دمار وحشي طال من الضحايا المدنيين الكثير أغلبهم من الأطفال والنساء. ولعل المتتبع لتغطية وسائل الاعلام التقليدية الامريكية لهذا الصراع منذ نشأته الى يومنا هذا يجد بما لا شك فيه انحياز شبه كامل إن لم يكن كاملا في كثير من هذه الأوساط للرواية الإسرائيلية القائمة على شيطنة الفلسطينيين والباس المقاومة ، حتى السلمي منها، ثوب الارهاب الذي لا يتقبله الغرب ولا يبرر اي تعامل منطقي معه.
لكن العدوان الأخير إتسم بوحشية غير مسبوقة وغير مبررة ظهرت جلية بشهادة الإسرائيليين أنفسهم وعلى كافة مستويات الرأي العام الاسرائيلي. فلقد كانت الضرباب الأخيرة المستهدفة للبنية التحتية في قطاع غزة ضربات مدمرة لمناطق سكنية مدنية لا مقاتلين فيها ولم تطلق منها أية صواريخ نحو المدن الإسرائيلية. كما كان إستهداف الأبراج السكنية وأبراج تستضيف مكاتب اعلامية عالمية من أكثر الأهداف التي اثارت حفيظة الرأي العام العالمي ولاقت اسرائيل بشأنها نقدا لاذعا لعدم وجود مبرر لها. فقد نشرت صحيفة النيورك تايمز بعددها الصادر في 21 من مايو 2021 على لسان ثلاثة مسؤولين إسرائيليين وصفتهم بالكبار بأن "الحكومة والجيش ندموا على تدمير برج الجلاء في قطاع غزة خلال الحرب" خاصة ان ضباط الجيش الاسرائيلي كانو على معرفة سابقة بأن المبنى يضم مكاتب شبكة الجزيرة ووكالة أسوشيتد برس الأميركية ووسائل إعلام أخرى.
وفي العدوان الاخير لم تغير النيورك تايمز مواقفها بشكل كبير فقد اعتبرت الصحيفة بتغطيتها بأن ما تقوم به اسرائيل يندرج تحت بند الدفاع عن النفس لا بل ذهبت لأبعد من ذلك حينما قامت بالتشهير بالكثير من المشاهير الأمريكيين والأوربيين الذين تضامنوا مع المدنيين الفلسطينيين القابعين تحت الحصار والعدوان الغير متكافئ من قبل أحد اقوى جيوش الشرق الاوسط لا بل والعالم تسلحا وعتادا. فقد قامت الصحيفة بنشر إعلان من القطع الكبير هاجمت به عارضتي الازياء من اصول فلسطينية بيلا وجيجي حديد والمغنية دوا ليب لمناصرتهم الفلسطينيين تحت عنوان "حماس تنادي بمحرقة ثانية، فأدينوهم". مما فتح الكثير من الانتقادات اللاذعة لهذا المنشور من قبل المجتمع الامريكي وحول العالم لما تحظى به تلك الشخصيات من نفوذ في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات التي يرتادها الملايين.
وفيما ظهر للبعض على أنه تغيير لطريقة تناول الصحيفة لحيثيات هذا الصراع الممتد لأكثر من سبعة عقود، فرح الكثير من مناصري القضية الفلسطينية لوصول صور الضحايا من الأطفال الى صفحات افتتاحية هذه الصحيفة الهامة في الدولة العظمى. وهنا لا بد من عدم التضخيم من هذه الخطوة وإن كانت هامة جدا ولم تحدث مثيلاتها من قبل في ما يتعلق بتغطية الصراع العربي الإسرائيلي حتى في محطات أكثر تعقيدا وأشد أثرا من حيث كم وعدد الضحايا. لكن النيورك تايمز قامت بنشر هذه الصورة محاولة تصوير الأطفال الضحايا من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء.
غير أن صحيفة هارتس الاسرائيلية يسارية الميول وقعت بمأزق لنشرها نفس صور الضحايا مبينة أن الاطفال جلهم كانوا من الفلسطينيين حتى الطفلة الاسرائيلية التي قتلت بصاروخ أصاب مدينة اللد كانت فلسطينية من حملة الجنيسية الاسرائيلية او ما يعرفون بعرب الداخل. نعم، فهنا تكون النيورك تايمز نقلت بما لا يتعارض مع مناصرتها لحق اسرائيل بالدفاع عن النفس ما قامت به صحف وقنوات اسرائيلية معنية بالشأن بالمقام الاول قبل وخلال وبعد العدوان بنشر لصور الضحايا والدمار والقتلى من الاطفال تحديدا واضعة الحكومة الاسرائيلية امام تساؤل أخلاقي فيما اذا كان ما تقوم به إسرائيل مبررا ام لا وإن كان يصب بمصلحة أمن المواطن الإسرائيلي ام انه يزيد المشهد تعقيدا. وهنا لن تكون النيورك تايمز في مرتبة الملوكية اكثر من الملك ذاته وقامت بما شاهده العالم من نقلة جذرية في تغطية المشهد.
بغض النظر عن اهمية او عدم اهمية هذا التغيير في نظر البعض لا بد من التأكيد على أن الفلسطينيين اليوم يحصدون ثمار جهد قامو به على الأرض وفي الفضاء الافتراضي لسنوات عديدة. وصمودهم في ارضهم وتصديهم لكافة المحاولات الاسرائيلية لتجريد الارض من هويتها العربية الاسلامية والمسيحية في كافة مدن فلسطين المحتلة وعلى رأسها مدينة القدس التي نزعت فتيل المواجهة الأخير. الفارق الوحيد اليوم هو تعدد الأدوات المتاحة للفلسطينيين فهي اكثر تنوعا واشد وقعا في نشر معاناتهم، فهم يعملون مدعومين أولا بحقهم بالحياة الكريمة على أرضهم بما تكفله لهم المواثيق الدولية، ومسنودين بمناصرين لقضيتهم العادلة من كافة ديانات العالم وأطيافة بما فيهم يهود واسرائيليين عارضوا ما قامت وتقوم به دولة اسرائيل بإسم الديانة اليهودية. اليوم الفلسطينيين يشهدون تغييرا قد يكون إن تم توظيفه بشكل وجهد منظم ومدروس مدخلا لإعادة قضيتهم العادلة على سلم أولويات المجتمع الدولي بشكل جدي هذه المرة، وبأسلوب يتحاشى ما وقع به الفلسطينيون من أخطاء جعلت إتفاق أوسلو يعود بالسلب عليهم ويعطي لإسرائيل وقتا ثمينا ومجانيا لتغير به من معطيات الصراع على الأرض وتجعل من الوصول لحل الدولتين شبه مستحيل. اليوم الفلسطينيون مطالبون بالتركيز والبناء على ما تم إنجازه والعمل على توجيه البوصلة بالإتجاة الصحيح تحقيقا للحقوق ووصولا لعيش كريم في دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.